الوجه التكفيري عند المتكلِّمين (1)

  • 367

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فلا ريب أن مخالفةَ نهج السلف وطريقتهم -طريقة الكتاب والسنة في الاعتقاد- تورث بدعًا منكرة، وهو الأمرُ المتحققُ في الفرقِ الكلاميّةِ، فكان لها وجهٌ تكفيري تطفحُ به كتبُهم، وقامتْ عليه أصولُهم، ولا يملكون سبيلًا إلى إنكاره، ومن ذلك: 

بدعة تكفير وتفسيق السواد الأعظم من المسلمين المقلدين في إيمانهم، وقد شاعَ الاختلاف في إيمان المقلِّد في مُصنَّفَات الأشعرية، إلى حدٍ يَحكي فيه كلُّ فريق الإجماع.

قال تقي الدين المُقتَرَح في (شرح الإرشاد): "وادَّعى كل واحد من الفريقين الإجماع على نقيض ما ادَّعاه مخالفه)؛ وذلك لأن الفرق الكلامية (المعتزلة والأشاعرة) أنكروا أن تكون معرفة الله -عز وجل- فطرية، وأن وجود الله معلوم بالاضطرار، مخالفين قول الله -عز وجل-: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا"، وصاروا يطلبون الدليل على وجودِ الله الذي هو دليلُ كلِ شيءٍ، وأظهر للعقول والفِطَر من وجودِ النَّهار "أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ"، وذلك بعد ما دخلوا إلى سراديبِ الفلسفةِ وتأثروا بأوهامِها وخاضوا بحرَ أوحالِها، وترتَّب على ذلك خلل عظيم في قضية الإيمان والكفر عندهم.

وأسسوا بدعة منكرة؛ فجعلوا أولَ واجب على العباد بدلًا من الشهادتين هو النظر، أي: وجوب معرفة الله -تعالى- بالدلائل العقلية على طريقتهم الكلامية في الأعراض، وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها لإثبات حدوث العالم ووجود الخالق، وهي طريقة صعبة الفهم على العوام بشهادتهم، ورتَّبوا على هذه البدعة أحكامًا شنيعة منكرة، حيث جعلوا النظرَ على طريقتهم شرطًا لصحة الإيمان، وسموا مَن لم يتبع هذه الطريقة مقلدًا محكومًا عليه بالكفر والخسران أو الفسق، فيلزم مِن قولهم هذا؛ أنهم هم المؤمنون الناجون دون سواهم، ويكون العوام -وهم أكثر المسلمين- ليسوا بمؤمنين، وكذا العلماء الذين لم يسلكوا مسالكهم ويتبعوا طريقتهم! فيا للعضيهة! (العضيهة: البهتان والكذب).

وفي هذا تضييق لرحمة الله الواسعة، وابتداع لقولٍ لم يسبقوا إليه، ومِن القائلين بهذا السنوسي في شرح الكبرى، وفد اختار أن المقلِّد في إيمانه كافر، ويؤكد البيجوري هذا في شرح الجوهرة بقوله: "فيكون المقلد كافرًا، وعليه السنوسي في الكبرى"، وجعل الكوثري -الذي يلقبه الأشاعرة المعاصرون- بالإمام في مقدمة الإنصاف؛ القول بعدم صحة إيمان المقلد هو وحده المنسوب إلى المذهب الأشعري، ونقل الدسوقي في (شرح أم البراهين) القول بعدم صحة إيمان المقلّد عن أبي الحسن الأشعري، والقاضي الباقلاني، والجويني، وابن التلمساني، وابن العربي ... ونَسَبَ الفضالي الأزهري في تحقيق المقام على كفاية العوام القولَ بتكفيرِ المقلد لابن العربي، وغيره.

وأما البغدادي في (أصول الدين) وإن اختار القول بإيمان المقلِّد لكنه عاصٍ؛ إلا أنَّه ينقل أن رأي الأشعري: هو أن العامي المقلد ليس كافرًا ولا مؤمنًا، فهو إذًا في منزلة بين المنزلتين! وهذا هو مذهب المعتزلة، بينما يرى آخرون أن هذا المقلد مؤمن، لكنه عاصٍ بتركه النظر المؤدي إلى معرفة أدلة قواعد الدِّين، ومنهم مَن فصَّل بحسب أهلية النظر وغيرها، ومنهم مَن حكم بإيمانه، لكن جعل النظر شرطًا لكمال الإيمان. 

فانظر كيف كَفَّرُوا وفسَّقوا الكثرة مِن المسلمين القائم إيمانهم على الفطرة التي فطرهم الله عليها! حتى إن يوسف بن إلياس العجمي الكنجي المعروف بـ"عجم سنان"، قال في حاشيته على شرح المواقف: "روي أن إمام الحرمين حين قرر "أن إيمان المقلد غير معتبر"، وقد كان يطوف بالبيت اعترض عليه من علماء شيراز بأنه يكون أكثر هؤلاء الطائفين هالكين غير مؤمنين! فقال الإمام الجويني: أتخوفني بكثرة الهالكين؟!"، هكذا يصدح الجويني بلا مواربة: "أتخوفني بكثرة الهالكين؟!" على مَن أنكر عليه تكفير المسلمين المقلدين الذين يمتدون مِن زمنه -صلى الله عليه وسلم- وعبر القرون الخيرية الأولى إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، والله المستعان. 

ويقرر الجويني في الشامل: أن مَن مات قبل أن ينظر، وكان بإمكانه النظر فهو ملحق بالكافرين، وهذا النصّ للجويني من أكثر نصوصه في هذه المسألة حضورًا في مصنفات الأشعرية، (أورده ابن عرفة في المختصر الكلامي، والسنوسي في شرح الكبرى، واليوسي في حواشي الكبرى، وابن النابلسي في الحديقة، وغيرهم).

وقد نقل ابن حجر كلام الجويني وغيره في فتح الباري، ورد عليه قائلًا: "وَمَعَ ذَلِكَ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: )فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)، وَحَدِيثُ: (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفطْرَة) ظَاهر فِي دَفْعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ أَصْلِهَا ... وَقَدْ نَقَلَ الْقُدْوَةُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ السِّمْنَانِي، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الْأَشَاعِرَةِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ مَسَائِلِ الْمُعْتَزِلَةِ بَقِيَتْ فِي الْمَذْهَبِ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ".

قلتُ: ومثل هذه المسائل تؤكِّد كما صرَّح الدكتور النشار في مقدمة الشامل -مع تعصبه الشديد للأشاعرة-: "أن الأشاعرة لم يخالفوا المعتزلة في الأصول، وإنما في فهم هذه الأصول"، وهذا ما جعل بعض الأشاعرة، مثل: السِّماني، وأبي المظفر بن السمعاني، وأبي حامد الغزالي، ونحوهم ... ينتقدون المذهبَ في هذه المسألةِ، والعجب من هؤلاء أنهم يكفِّرون المقلدين أو يفسقونهم، مع أن جمهورهم مقلد لرؤوسهم!

قال أبو إسماعيل الهروي -رحمه الله-: "وأبطلوا التقليد، فكفَّروا آباءهم وأمهاتهم وأزواجهم وعوام المسلمين، وأوجبوا النظر في الكلام، واضطروا إليه الدِّين بزعمهم؛ فكفَّروا السلف؟!" (بيان تلبيس الجهمية لشيخ الإسلام ابن تيمية).

وللحديث بقية -إن شاء الله-.