هبت نسائم الخيرات!

  • 60

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد هَبَّتْ نسائم الخيرات، وحلَّ بساحتنا ضيفٌ حبيب، طالما انتظرته القلوب المؤمنة، وتشوَّقت لبلوغه النفوس الزاكية، وتأهَّبت له الهمم العالية، ضيف رفع الله شأنه، وأعلى مكانه، وخصه بمزيد من الفضل والكرامة، وجعله موسمًا عظيمًا لفعل الخيرات، والمسابقة بين المؤمنين لنيل أعلى الدرجات، (‌وَفِي ‌ذَلِكَ ‌فَلْيَتَنَافَسِ ‌الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين: 26).

ضيف تواترت النصوص والأخبار بفضله، ومعلنة عن محبة الله -تعالى- له، وتعظيمه لشأنه؛ ضيف يجلب لك الخير الكثير، والثواب الجزيل، والأجر الكبير؛ إن أنت عرفت قدره، وأحسنت استقباله، وأكرمت وفادته، واستثمرته فيما يقرِّبك إلى الله، ويرفع درجاتك عنده.

إنه (شَهْرُ رَمَضَانَ ‌الَّذِي ‌أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة: 185)، سيد الشهور وأفضلها على الدوام، تُرفع فيه الدرجات، وتُضاعف فيه الحسنات، وتُكفر فيه السيئات.

كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبشِّر أصحابه بقدومه قائلًا: (أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ ‌حُرِمَ ‌خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ) (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني).

قال ابن رجب -رحمه الله-: "هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضًا بشهر رمضان، وكيف لا يُبشّر المؤمن بفتح أبواب الجنان؟! وكيف لا يُبشر المذنب بغلق أبواب النيران؟! وكيف لا يُبشر العاقل بوقت يُغل فيه الشيطان؟! ومِن أين يشبه هذا الزمان زمان؟!" (لطائف المعارف).

قال المُعلى بن الفضل -رحمه الله-: "كان السَّلَف يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان!".

فرمضان فرصة نادرة ثمينة، فيها الرحمة والمغفرة، فأبواب الجنة مفتحة، وأبواب النيران مغلقة، ودواعي الخير ميسرة، والأعوان عليه كثيرون، ومردة الشياطين مصفَّدون، فيه ليلةُ القدر خيرٌ من ألفِ شهر، من حُرم خيرها فهو المحروم؛ مَن صامه وقامه غُفر له ما تقدَّم من ذنبه، ولله -تعالى- فيه عتقاءُ من النّار، فمن لم تنله الرحمة مع كلِّ ذلك فمتى تناله إذًا؟ ولا يهلك على الله إلا هالك، فالواجب على العبد أن يتقدَّم فيه ولا يتأخر، ويمضي ولا يلتفت، ويطرق أبواب الخير، وما فتح له من بابٍ فليلزمه؛ قال خالد بن معـدان: "إذا فُتح لأحدكم بـابُ خيـر؛ فليسرع إليه، فـإنه لا يـدري متى يُغلـق عنه".

فالخيبة والخسران لمَن أدرك مواسم الغفران ولم يغفر له، والمحروم مَن حرم فيه رحمة الله، كيف لا وجبريل -عليه السلام- قال: (مَنْ أَدْرَكَ ‌رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، ‌فَأَبْعَدَهُ ‌اللهُ) (رواه ابن حبان، وصححه الألباني)، وأَمَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- على دعائه.

لقد تلمَّح الصالحون حقيقة الوجود وفهموا المقصود؛ فجمعوا الرحل قبل الرحيل، وشمروا في سواء السبيل؛ فالناس مشغولون في حرارة الاكتساب، وهم في ظل القناعة، وكسالى البطالة على فراش التواني، وهم في حلبات السباق ‏‏يرجون تجارة لن تبور‏؛ غناهم في قلوبهم، ‏سيماهم في وجوههم‏‏ ما ضرهم ما عزهم، هان عليهم طول الطريق؛ لعلمهم بشرف المقصد، وحَلَتْ لهم مراراتُ البلاء؛ لتعجيل السلامة! فيا بشراهم يوم ‏‏هذا يومكم‏‏.‏

فيا مؤخرًا توبته بمطل التسويف، اكتب بمداد الدمع حسن الظن إلى مَن يحققه، ولا تقنع في توبتك إلا بمكابدة حزن يعقوب عن البين، أو بعبرة داود، ومناداة يونس لربه في ظلماتٍ ثلاثٍ: "لا اله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين"، أو بصبر يوسف عن الهوى، فإن لم تطق ذلك فبذل إخوته يوم أن قالوا: (إِنَّا ‌كُنَّا ‌خَاطِئِينَ) (يوسف: 97).

إن غائبًا يحدوه الجديدان: الليل والنهار؛ لحري بسرعة الأوبة؛ فرحم الله امرأ قدَّم توبته وغلب شهوته؛ فإن أجله مستور عنه، وأمله خادع له، فالدنيا غرارة ضرارة زائلة، لا تعدو أن تكون بزخرفها، كما قال الله -تعالى-: (كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ ‌فَاخْتَلَطَ ‌بِهِ ‌نَبَاتُ ‌الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ) (الكهف: 45)، والشيطان موكَّل به، يزين له المعصية والتفريط ليركبهما، ويمنيه التوبة ليسوفها، (‌يَعِدُهُمْ ‌وَيُمَنِّيهِمْ ‌وَمَا ‌يَعِدُهُمُ ‌الشَّيْطَانُ ‌إِلَّا ‌غُرُورًا) (النساء: 120).

فيـا مَن قـد ألقاه الهوى في جبِّ حب الدنيا، سيارة القدر تبعث كل ليلة وارد‏:‏ "‏هل مِن سائل؟"؛ فكن متيقظـًا للوارد إذا أدلى دلو التخليص، وقم على قدم ‏‏"تتجافى"‏،‏ وامدد أنامل "‏يـدعون ربهم"‏، و"ألق ما في يمينك"؛ لتتعجل الخروج، ولا تتشبث بأرجاء بئر الهوى، فإنها رمل تنهار عليك، فإذا تخلصت بعزائم الإنابة، فاحذر من الطريق المسبعة، وسر في مصباح اليقين خلف دليل الهوى:‏ فعنـد الصبـاح يحمـد القـوم السُّـرى‏.‏

يا هــذا، لا ضرر يلحقنا في معاصيك، إنما المراد صيانتك، ولا نفع لنا في طاعتك، إنما المقصود ربحك، فتدبر أمرك؛ كم ندعوك وتأبى إلا الهجر، فلا العهد رعيت، ولا للتقويم استويت، إذا صدق التائب أجبناه وأحييناه، ‏وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس،‏ يا معاشر التائبين ‏‏أوفوا بالعقود‏،‏ وانظروا لمَن عاهدتم ‏ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها‏،‏ فإن زللتم من بعد التقويم فارجعوا إلى دار المداراة، ‏فإن الله لا يمل حتى تملوا‏‏‏.‏

فيا نائمـًا طول الليل، سارت الرفقة، وما انتهت الرقدة، لو قمتَ وقت السحر؛ رأيتَ طريق العباد قد غصَّ بالزحام!

ويا أيها العاصي، ما يقطع مِن صلاحك الطمع، ما نصبنا اليوم شَرَك المواعظ إلا لتقع، فإذا عزمت على التوبة، قالت لك ملائكة الرحمة: مرحبًا وسهلًا، فإن قال لك رفقاؤك في المعصية: هلم إلينا، فقل لهم: كلا، ذاك خمر الهوى الذي عهدتموه قد استحال خلَّا، فيا لفوز مَن سعوا في فكاك رقابهم مِن قَبْل أن تغلق عليهم رهائنها، ألا إن لله عتقاء من النار في هذا الشهر المبارك.