قصة بناء الكعبة (6)
الحمد لله، والصلاة
والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فبعد أن ذكر الله -تعالى-
أنه جعل خليله إبراهيم -عليه السلام- إمامًا للناس -ومَن كان مِن ذريته عادلًا غير
ظالم-؛ ذكر -سبحانه وتعالى- قصة بناء الكعبة المُشَرَّفة قِبلة إمام البشرية كافة،
وأمته إلى آخر الزمان، وخير الخليقة محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ خاتم النبيين،
وإمام المرسلين، وهذا تمهيدًا لنسخ القبلة مِن بيت المقدس إلى استقبال الكعبة؛
فقال -تعالى-: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً
لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا
إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (البقرة:125).
قال ابن
كثير -رحمه الله-: "قال العوفي عن ابن عباس: قوله -تعالى-: (وَإِذْ
جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ) يقول: لا يقضون منه وطرًا؛
يأتونه ثم يرجعون إلى أهليهم، ثم يعودون إليه. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس:
(مَثَابَةً لِّلنَّاسِ) يقول: يثوبون. رواهما ابن
جرير. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس، في
قوله -تعالى-: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً
لِّلنَّاسِ) قال: يثوبون إليه ثم يرجعون.
قال: وروي عن أبي
العالية، وسعيد بن جبير في رواية وعطاء، ومجاهد، والحسن، وعطية، والربيع بن أنس،
والضحاك، نحو ذلك.
وروى ابن جرير عن
عبدة بن أبي لبابة، في قوله -تعالى-: (وَإِذْ جَعَلْنَا
الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ) قال: لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد
قضى منه وطرًا.
وعن ابن زيد: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ) قال:
يثوبون إليه من البلدان كلها ويأتونه، وما أحسن ما قال الشاعر في هذا المعنى،
أورده القرطبي:
جعل
البيت مثابًا لهم ليس مـنه
الدهر يقضون الوطر
وقال سعيد بن جبير
في الرواية الأخرى وعكرمة، وقتادة، وعطاء الخراساني: (مَثَابَةً
لِّلنَّاسِ) أي: مجمعًا.
(وَأَمْنًا) قال الضحاك عن ابن عباس: أي أمنًا للناس.
وقال أبو جعفر الرازي
عن أبي العالية: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً
لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا) يقول: أمنًا مِن العدو، وأن يحمل فيه السلاح، وقد
كانوا في الجاهلية يُتخطف الناس من حولهم، وهم آمنون لا يُسْبَون.
وروي عن مجاهد،
وعطاء، والسدي، وقتادة، والربيع بن أنس، قالوا: مَن دخله كان آمنا.
ومضمون ما فسر به
هؤلاء الأئمة هذه الآية: أن الله -تعالى- يذكر شرف البيت وما جعله موصوفًا به شرعًا
وقدرًا مِن كونه مثابة للناس؛ أي: جعله محلًّا تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه، ولا
تقضي منه وطرًا ولو ترددت إليه كل عام؛ استجابة من الله -تعالى- لدعاء خليله
إبراهيم -عليه السلام- في قوله: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ
النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) إلى أن قال: (رَبَّنَا
وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) (إبراهيم:37-40).
ويصفه -تعالى- بأنه
جعله أمنًا؛ مَن دخله أَمِن، ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمنًا.
وقال عبد الرحمن بن زيد
بن أسلم: كان الرجل يَلْقَى قاتل أبيه وأخيه فيه فلا يعرض له، كما وصفها في سورة
المائدة بقوله -تعالى-: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ
الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ) (المائدة:97)، أي: يرفع عنهم
بسبب تعظيمها السوء كما قال ابن عباس: لو لم يحج الناس هذا البيت لأطبق الله
السماء على الأرض، وما هذا الشرف إلا لشرف بانيه أولًا، وهو خليل الرحمن -"قلتُ: بل الشرف؛ لأن الله شَرَّفه وحرمه قبل أن يخلق
الناس، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ مَكَّةَ
حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ) (متفق عليه)، وقال: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ
مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ) (رواه البخاري)"- كما قال -تعالى-: (وَإِذْ
بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا)
(الحج:26)، وقال -تعالى-: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا
وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ
كَانَ آمِنًا) (آل عمران: 96-97).
وفي هذه الآية
الكريمة نبَّه -تعالى- على مقام إبراهيم مع الأمر بالصلاة عنده، فقال: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) (البقرة:125)، وقد اختلف المفسرون في المراد بالمقام: ما هو؟
فروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ
إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) قال: مقام إبراهيم: الحرم كله. وروي عن مجاهد وعطاء
مثل ذلك.
وروى أيضًا عن ابن
جريج، قال: سألت عطاء عن (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ
مُصَلًّى) فقال: سمعت ابن عباس قال: أما مقام إبراهيم الذي ذكره هاهنا -أي:
في هذه السورة-، فمقام إبراهيم هذا الذي في المسجد -يعني الحجر الذي عليه القبة
الصغيرة الصفراء-، ثم قال: و(مَقَام إِبْرَاهِيمَ)
يُعَدُّ كَثِير، (مَقَام إِبْرَاهِيمَ) الحج كله.
ثم فسره لي عطاء فقال: التعريف، وصلاتان بعرفة (الظهر والعصر)، والمشعر، ومنى،
ورمي الجمار، والطواف بين الصفا والمروة. فقلت: أفسره ابن عباس؟ قال: لا، ولكن قال:
مقام إبراهيم: الحج كله. قلتُ: أسمعت ذلك ؟ لهذا أجمع. قال: نعم، سمعته منه.
وروى سفيان الثوري
عن سعيد بن جبير: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ
مُصَلًّى) قال: الحجر مقام إبراهيم نبي الله، قد جعله الله رحمة، فكان يقوم
عليه ويناوله إسماعيل الحجارة. ولو غسل رأسه كما يقولون لاختلف رجلاه.
وقال السدي: المقام:
الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم حتى غسلتْ رأسه. حكاه القرطبي
وضعفه، ورجحه غيره، وحكاه الرازي في تفسيره عن الحسن البصري وقتادة والربيع بن أنس
-(قلتُ: والراجح الأول؛ أنه الحجر الذي كان يبني
عليه إبراهيم الكعبة المشرفة)-.
وروى ابن أبي حاتم
عن جابر يحدِّث عن حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لما طاف النبي -صلى الله
عليه وسلم- قال له عمر: هذا مقام أبينا؟ قال: نعم، قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل
الله -عز وجل-: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)
-(قلتُ: هذا لا يثبت؛ لأن النبي -صلى الله عليه
وسلم- ثبت في الصحيح أنه صَلَّى الركعتين مباشرة عقب طوافه)-.
وروى عثمان بن أبي
شيبة عن أبي ميسرة قال: قال عمر: قلت: يا رسول الله، هذا مقام خليل ربنا؟ قال: نعم،
قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فنزلت: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ
إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) -(قلتُ: والذي
يظهر أن هذا كان سابقًا على حجة الوداع)-.
وروى ابن مردويه عن
عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب أنه مرَّ بمقام إبراهيم، فقال: يا رسول الله، أليس
نقوم بمقام خليل ربنا؟ قال: بلى. قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فلم يلبث إلا يسيرًا حتى
نزلت: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى).
وروى ابن مردويه عن
جابر قال: لما وقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم فتح مكة عند مقام إبراهيم،
قال له عمر: يا رسول الله، هذا مقام إبراهيم الذي قال الله: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)؟ قال:
نعم. قال الوليد: قلت لمالك: هكذا حدثك (وَاتَّخِذُوا)
قال: نعم. هكذا وقع في هذه الرواية، وهو غريب.
وقد روى النسائي من
حديث الوليد بن مسلم نحوه.
وقال البخاري: باب
قوله: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)،
مثابة: يثوبون يرجعون. حدثنا مسدد، حدثنا يحيى عن حميد عن أنس بن مالك قال: قال
عمر بن الخطاب: وافقت ربي في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو
اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟ فنزلت: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ
إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) وقلت: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو
أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب؟ فأنزل الله آية الحجاب. وقال: وبلغني معاتبة النبي -صلى
الله عليه وسلم- بعض نسائه، فدخلت عليهن، فقلتُ: إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله
خيرًا منكن، حتى أتيتُ إحدى نسائه، فقالت: يا عمر، أما في رسول الله ما يعظ نساءَه
حتى تعظهن أنت؟! فأنزل الله: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ
أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ) الآية (التحريم:5)" (انتهى من
تفسير ابن كثير).
وللحديث بقية -إن
شاء الله-.