أمريكا وحقوق الإنسان .. لم يعد الدرس مقنعًا

  • 95
عماد المهدي

جدَّدت جريمة مقتل المواطن الأمريكي "فريدي غراي" الذي اعتقلته الشرطة الأمريكية في الثاني عشر من إبريل الجاري على خلفية حيازته سكينًا، والتي نُقِل عقبها إلى المستشفى، حيث وافته المنية في التاسع عشر من الشهر ذاته متأثرًا بجروح خطيرة أصيب فيها في عنقه، التاريخ الأسود للعنصرية الأمريكية؛ حيث أُشعلت احتجاجات واسعة لم تهدأ منذ مقتله في مدينة "بالتيمور" بولاية "مريلاند" الأمريكية، مما دفع عمدة المدينة إلى إعلان حالة الطوارئ وحظر التجول الليلي مع استدعاء العديد من قوات الشرطة ونشرهم داخل المدينة لإيقاف الأحداث، كما تم نشر قوات من الحرس الوطني الأمريكي لمواجهة الأحداث المتصاعدة.

وغني عن البيان أن هذه الحادثة لم تكن الأولى من نوعها ولن تكن الأخيرة؛ فالسجل الأمريكي مليء بالعديد من أحداث مشابهة إن لم تكن متطابقة، بما يعني أن على الولايات المتحدة أن تكفَّ عن إلقاء الدروس في حقوق الإنسان للشعوب والدول، وتنظر إلى سجلها الأسود في هذا المجال ليس فقط على مستوى الداخل الأمريكي وإنما على مستوى الخارج أيضًا، ولعل ما جرى في سجن أبو غريب بالعراق سيظل نموذجًا للسياسة الامريكية في تعاملها مع قضايا حقوق الإنسان بطريقة انتقائية.

وحتى لا يكون الحديث عن إفلاس الولايات المتحدة في مجال حقوق الإنسان حديثًا متناثرًا أو كما يحلو للبعض من المعجبين بالنموذج الديمقراطي الأمريكي في مجمله، برفض أية تقييمات للخطاب الأمريكي في مجال حقوق الإنسان، بحجة أن هذه التجاوزات والانتهاكات ليست تعبيرًا عن خط متصل في سياسة الدولة ونهجها، ونود أن نُعرِّج على بعض الحوادث التي وقعت ونستعرض بعض التقارير الدولية التي حاولت أن تكون مهنية -نوعًا ما- في تعاملها مع ملف حقوق الانسان في الولايات المتحدة وخاصة فيما يتعلق بحق المواطنين السود، وذلك من خلال تسجيل ملاحظتين مهمتين:

الأولى: أن تاريخ أمريكا حافل بالعنصرية، ومن أبرز محطاته السوداء أعوام النضال التي خاضها "مارتن لوثر كينغ" وخروج مسيرات للمطالبة بالحقوق المدنية منذ بداية الستينيات من القرن المنصرم وحتى نهايتها حينما تم إقرار قانون لحماية السود بمنحهم الحق في التصويت، وذلك في عام 1968 ورغم ذلك لم تنتهِ العنصرية، بل تجددت مع قضية "رودني كينج" عام 1992 حينما تعرض للضرب على يد أربعة ضباط شرطة في تسجيل صوَّره أحد مصوري الفيديو الهواة بسبب تجاوزه للسرعة المقررة، وبسبب تبرئة الضباط الأربعة اشتعلت الاحتجاجات مخلفة 50 قتيلًا ومئات الجرحى، وفي عام2010 اندلعت الاحتجاجات بعد مقتل شاب أسود على أيدي رجال الشرطة؛ مما استدعى الشرطة لارتكاب جرائم على نطاق أوسع ضد السود الذين خرجوا إلى الشوارع، وفي هذا العام أيضًا قتل الشاب الأسود "أوسكار غرانت" على يد رجال الشرطة، ليتم الحكم على الضابط بالسجن لمدة عامين فقط، الأمر الذي أثار غضب المتظاهرين في مواجهة الشرطة التي قابلتهم بكل عنف، ومع مجيء "باراك أوباما" إلى السلطة لم يتغير الأمر تمامًا، ففي عام 2012 قُتل الشاب "ترايفون مارتن" بولاية فلوريدا، وفي منتصف عام 2014 قُتل أربعة أمريكيين من أصول إفريقية برصاص الشرطة، وتجددت هذه المواجهات بشكل كبير مع مقتل الشاب الإفريقي الأعزل "مايكل بروان" في أغسطس 2014 بمدينة "فيرغسون" بولاية ميزوري؛ حيث اشتعلت الاحتجاجات وزاد لهيبها عقب إطلاق سراح ضابط الشرطة الأبيض البشرة والمسئول عن وفاته. ويكشف استعراض هذه المحطات عن أن السياسة العنصرية في الولايات المتحدة لم تتوقف طوال الفترة الماضية، بل لم يكن القضاء نزيهًا في كثير من هذه القضايا بما قد يمثل مساسًا بسمعة القضاء واستقلاله، يدلل على ذلك ما ورد في تقرير لمنظمة العفو الدولية صدر في السادس والعشرين من ديسمبر 2014، يدين دور الشرطة الأمريكية في استخدامها لقنابل غاز محرمة دوليًّا في مواجهة الاحتجاجات الشعبية على عدم مقاضاة الشرطي الأبيض، كما شكك التقرير فيما إذا كانت السلطات الأمريكية المنوط بها تنفيذ القانون قامت بواجبها على الوجه الصحيح، في إشارة إلى أن اعتبارات عنصرية تدخلت في هذه القضية.

الأخرى: تفتح مثل هذه الحوادث الباب واسعًا أمام خطرين؛ الأول: يتعلق بإثارة الفتن والانقسامات داخل المجتمعات بما يهدد وحدة نسيجها وتماسكها، بل يفتح المجال لمواجهات مسلحة بين أبنائها، كما حدث في الولايات المتحدة خلال فترة الثمانينات حينما برز على السطح حزب "الفهود السود" الذي يتبنى حمل السلاح للدفاع عن حقوق السود، ويُعاد نشاطه مجددًا إثر اندلاع أية حوادث قتل للسود على يد الشرطة الأمريكية، أما الخطر الآخر: فيتمثل في التجاوزات التي ترتكبها الأجهزة الأمنية بحق المواطنين، ليس فقط في الدول غير الديمقراطية، بل في الدول الديمقراطية التي ترفع شعارات حقوق الإنسان وحمايتها.

ما أود أن أخلص إليه هو أن التشدُّق الأمريكي بملفات حقوق الإنسان في مختلف دول العالم كما تحاول أن توحى به من خلال ما تقوم بإعداده من تقارير بشأنها، لا يعني سوى خطاب مفرغ من مضمونه يستهدف التدخُّل في الشئون الداخلية للدول والتأثير على سياستها بما يتفق مع المصالح الأمريكية، وهو ما يكشف بدوره عن مدى الازدواجية في المعايير الأمريكية حينما تخاطب الخارج بلغة وتتعامل مع الداخل بلغة أخرى تتناقض كليةً مع الأولى؛ لينطبق عليها المثال القائل: "فاقد الشيء لا يُعطِيه".