عاجل

أمور يجب أن نراعيها

  • 196

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد ..

ففي أوقات الفتن واضطراب الأحوال يحتاج المسلم حاجة ماسة إلى مراعاة فقه الشريعة ومقاصدها وقواعدها ومن ذلك مراعاة المصالح والمفاسد، ومراعاة العواقب، والنظر في مآلات الأمور .

فالشريعة الإسلامية مبناها ولا شك على تحصيل المصالح وتكميلها, وتعطيل المفاسد وتقليلها ، كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى في " إعلام الموقعين 3/3 ": ( فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد ، وهي عدل كلها ، ورحمة كلها ، ومصالح كلها ، وحكمة كلها ، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل).

لذا فإن من الواجب على العلماء و الدعاة  والقادة أن يعملوا على حفظ مصالح الشرع ومصالح الأمة واستمرار الدعوة وسلامتها بمراعاة فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد  بما يحقق أعلا المصالح للإسلام والمسلمين ويدرأ عنهم أعظم المفاسد في دينهم ودنياهم وذلك بمعرفة رتب المصالح ورتب المفاسد و حسن التقدير للمصلحة أو المفسدة المتوقعة لا سيما عند التعارض - بعيدا عن التقديرات العاطفية أو الانطباعية.

قال شيخ الإسلام بن تيمية في ( السياسة الشرعية 1/66 ): (... مدار الشريعة على قوله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } وهي مبينة لقوله { اتقوا الله حق تقاته } وعلى قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ] - أخرجاه في الصحيحين- وعلى أن الواجب تحصيل المصالح وتكميلها وتبطيل المفاسد وتقليلها فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناها هو المشروع ... ) أ.هـ

 
وقال أيضا – رحمه الله – في ( مجموع الفتاوى  20/50 )  :
( فَصْلٌ :جَامِعٌ فِي تَعَارُضِ الْحَسَنَاتِ ؛ أَوْ السَّيِّئَاتِ ؛ أَوْ هُمَا جَمِيعًا . إذَا اجْتَمَعَا وَلَمْ يُمْكِنْ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا ؛ بَلْ الْمُمْكِنُ إمَّا فِعْلُهُمَا جَمِيعًا وَإِمَّا تَرْكُهُمَا جَمِيعًا .
وَقَدْ كَتَبْت مَا يُشْبِهُ هَذَا فِي " قَاعِدَةِ الْإِمَارَةِ وَالْخِلَافَةِ " وَفِي أَنَّ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا وَأَنَّهَا تُرَجِّحُ خَيْرَ الْخَيْرَيْنِ وَشَرَّ الشَّرَّيْنِ وَتَحْصِيلِ أَعْظَمِ الْمَصْلَحَتَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا وَتَدْفَعُ أَعْظَمَ الْمَفْسَدَتَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا ......) (... وَنَقُولُ : إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَسَنَاتِ لَهَا مَنَافِعُ وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً ،كَانَ فِي تَرْكِهَا مَضَارُّ وَالسَّيِّئَاتُ فِيهَا مَضَارُّ وَفِي الْمَكْرُوهِ بَعْضُ حَسَنَاتٍ .

فَالتَّعَارُضُ إمَّا بَيْنَ حَسَنَتَيْنِ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ؛ فَتُقَدَّمُ أَحْسَنُهُمَا بِتَفْوِيتِ الْمَرْجُوحِ وَإِمَّا بَيْنَ سَيِّئَتَيْنِ لَا يُمْكِنُ الْخُلُوُّ مِنْهُمَا ؛ فَيَدْفَعُ أَسْوَأَهُمَا بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا .

وَإِمَّا بَيْنَ حَسَنَةٍ وَسَيِّئَةٍ لَا يُمْكِنُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا ؛ بَلْ فِعْلُ الْحَسَنَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِوُقُوعِ السَّيِّئَةِ ؛ وَتَرْكُ السَّيِّئَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِتَرْكِ الْحَسَنَةِ ؛ فَيُرَجَّحُ الْأَرْجَحُ مِنْ مَنْفَعَةِ الْحَسَنَةِ وَمَضَرَّةِ السَّيِّئَةِ ... ) أ.هـ

وقال أيضا في ( مجموع الفتاوى  15/325 ): (... وَذَلِكَ أَنَّ مُقَارَنَةَ الْفُجَّارِ إنَّمَا يَفْعَلُهَا الْمُؤْمِنُ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُكْرَهًا عَلَيْهَا ، وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ رَاجِحَةٍ عَلَى مَفْسَدَةِ الْمُقَارَنَةِ أَوْ أَنْ يَكُونَ فِي تَرْكِهَا مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ فِي دِينِهِ فَيَدْفَعُ أَعْظَمَ الْمَفْسَدَتَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا وَتَحْصُلُ الْمَصْلَحَةُ الرَّاجِحَةُ بِاحْتِمَالِ الْمَفْسَدَةِ الْمَرْجُوحَةِ...) أ.هـ

وقال ابن القيم – رحمه الله تعالى في ( الجواب الكافي 1/108): ( ... وذلك بأن يعرض له أمران لا يمكن الجمع بينهما ولا يحصل أحدهما إلا بتفويت الآخر فهو موضع استعمال العقل والفقه والمعرفة ومن ههنا ارتفع من ارتفع وأنجح من أنجح وخاب من خاب فأكثر من ترى ممن يعظم عقله ومعرفته يؤثر غير المهم الذي لا يفوت علي المهم الذي يفوت ولا تجد أحدا يسلم من ذلك ولكن مستقل ومستكثر والتحكيم في هذا الباب للقاعدة الكبرى التي يكون عليها مدار الشرع والقدر وإليها يرجح الخلق والأمر وهى إيثار أكبر المصلحتين وأعلاهما وإن فاتت المصلحة التي هي دونها والدخول في أدنى المفسدتين لدفع ما هو أكبر منهما فتفوت مصلحة لتحصل ما هو وأكبر منهما ويرتكب مفسدة لدفع ما هو أعظم منها فخطرات العاقل وفكـره لا يتجاوز ذلك وبذلك جاءت الشرائع ومصالح الدنيا والآخرة لا تقوم إلا على ذلك وأعلى الفكر وأجلها وأنفعها ما كان لله والدار الآخرة ...) أ.هـــــــ

وبناءا على ما سبق نقله فإن كان علماؤنا وأسلافنا قد بذلوا جهوداً مضنيه في إبراز هذه القاعدة وتطبيقها في الأحكام ، فإنه يجب علينا لا سيما في مثل هذا الوقت أن نستفيد من هذا الجهد العلمي بالتطبيق العملي على الواقع الدعوى- على أن يكون ذلك ممن هو أهل له من أهلِ الفقه والعلم والنظر والدراية والحكمة والخبرة والاطلاع على الواقع و الأحوال ، فليس كل من سلك الطريق مؤهل لهذا النظر، ولا سيما في الحوادث الكبرى، والنوازل العظمى التي تعم الأمة بأكملها .

يجب علينا ذلك - من غير  إفراط ولا تفريط - كي يسير الركب إلى ما يرضى الرب سبحانه وتعالى ويحقق الخير للعباد والبلاد .
وخاتمة الكلام كلام الملك العلام :

(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )