أحداث من التاريخ والأزمات الراهنة

  • 229

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد:

 فلابد أن نعلم جميعا أن الإخلاص وحده لا يكفى، كذلك الحماس وحده لا يكفى، بل لابد أن يكونا منضبطين بضوابط الشرع؛ حيث إننا نرى الآن فى ظل الأحداث والمتغيرات أن البعض قد جهل القواعد والضوابط الشرعية؛ ومن ثم أخطأ فى تقديراته وتحليلاته وتوصيفه للواقع الذى نحياه.

ولا مستقبل لأمة تجهل تاريخها وماضيها؛فلابد من مراجعة التاريخ الاسلامى لنتعلم منه كيف نتعامل مع الأحداث الراهنة، وأنا أريد أن أضع بين يدى القارئ الكريم  بعض أحداث التاريخ لعلها تزيل الالتباس الذى استشرى وسط بعض الكيانات وعند بعض الأفراد.
 
أولا: تأملوا موقف أبى بكر الصديق رضى الله عنه يوم الحديبية، وقد اعترض كثير من الصحابة على بنود الصلح وعلى رأسهم عمر بن الخطاب رضى الله عنه، ولما ذهب عمر إلى أبى بكر وشكى إليه  قال له الصديق رضى الله عنه:"يا عمر، الزم غرزه حتى تموت؛ فإنه على الحق"، فلم يتعامل الصديق بالعاطفة والحماسة مع أنه أرق قلبا منهم أجمعين؛ كذلك فى قتاله لمانعى الزكاة يوم أن قال له عمر يا أبا بكر، أتقاتل قوما يقولون لا إله إلا الله؟! فقال أبو بكر:"والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة،والله لو منعونى عقالا كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه"، فلم يتعامل معهم بالعاطفة؛فهو يعلم يقينا خطورة الأمر، وهكذا لابد أن نكون يا عباد الله، نتجرد من العواطف والحماس الذى يؤدى أحيانا إلى الدمار الشامل، كالطبيب الذى يريد بتر ساق المريض للحفاظ على حياته، فلو أخذته العاطفة لضحى بحياة المريض كلها.
 
ثانيا:  بعد مقتل عثمان رضى الله، عنه تولى الخلافة على بن أبى طالب، واختلف الصحابة رضى الله عنهم فى مسألة أخذ الثأر لعثمان، فقد طلب معاوية بن أبى سفيان رضى الله عنه ومعه بعض الصحابة أخذر الثأر لعثمان، وهنا اعتذر إليهم علي رضى الله عنه كما يقول ابن كثير فى "البداية والنهاية": ( فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ علي بِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ مَدَدٌ وَأَعْوَانٌ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ يَوْمَهُ هَذَا)؛ وهنا لابد من وقفة مع مسألة الدم، ففى مثل هذه الأمور يصعب أولا تحديد الجناة، وهذا يحتاج إلى تحقيق واسع للتعرف على الجناة، لاسيما مع صعوبة التثبت فى أوقات الفتن والفوضى، ثم إن ذلك  يحتاج إلى قوة واستقرارفى الدولة  للقدرة على إقامة القصاص ..

لكن هذاهو الحماس المذموم الذى أدى بعد ذلك إلى وقوع القتال بين الفريقين فى موقعتى "الجمل وصِفِّين"؛ وكانت النتيجة مقتل عشرات الآلاف من المسلمين، بل ومن الصحابة الأفاضل رضى الله عنهم أجمعين، وكان الأصوب فى هذا الأمر هو ما رآه على رضى الله عنه؛ فإن النصوص قد نصت على أن الفئة الباغية هى من قاتلت عليا رضى الله عنه.


ثالثا: فى عهد يزيد بن معاوية قٌتل الحسين رضى الله عنه ومعه سبعون من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يخرج الصحابة على يزيد بسبب مقتل الحسين ومن معه، بل ولم يُحمل العلماءُ يزيدًا مقتل الحسين؛ لأنه لم يأمر بقتله، ولم يرض بذلك، وقد ذكر ابن كثير فى "البداية والنهاية" أن يزيدًا قال:"لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أَفْعَلْ مَعَهُ مَا فَعَلَهُ ابْنُ مَرْجَانَةَ - يَعْنِي عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ.

وَقَالَ للرسل الذين جاؤوا بِرَأْسِهِ: قَدْ كَانَ يَكْفِيكُمْ مِنَ الطَّاعَةِ دُونَ هَذَا، وَلَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا، وَأَكْرَمَ آلَ بَيْتِ الْحُسَيْنِ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ جَمِيعَ مَا فُقِدَ لَهُمْ وأضعافه، وردهم إلى المدينة في محامل وأهبة عَظِيمَةٍ"، يقول ابن تيمية رحمه الله:"وجرت في إمارة يزيد بن معاوية أمور عظيمة، أحدها: مقتل الحسين، فقد قٌتل رضي الله عنه في إمارة يزيد بن معاوية، ويزيد بن معاوية لم يأمر بقتل الحسين، ولا أظهر الفرح بقتله"، قلت ثم كانت وقعة "الحَرة" والتزم الكثيرون من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وعلماء المدينة ببيعتهم ليزيد بن معاوية؛ خشية الفتنة واقتتال المسلمين فيما بينهم،واعترض بعض علماء المدينة على خلع يزيد بن معاوية والخروج عليه، ولم يؤيدوا من خرج عليه، ونصحوا إخوانهم واعتزلوا الفتنة، وكان أغلب هذا الرأي منأهل العلم والفقه في الدين، وفي مقدمة هؤلاء الصحابي الجليل عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما؛ فقد اشتُهِر عنه إنكارهعلى الذين رفضوا البيعة لـ"يزيد"وسعوا في خلعه، وقدعارض ابن عمر من خرج من أهل المدينة لسببين:


الأول:نقضهم البيعة، وهو يرى أنهم أعطوا البيعة عن رضا واختيار، ولم يفعلوا مثل الحسينحيث كان موقفه واضحًا منذ البداية، ولم يُعطِ البيعة.
الثاني: تعظيم حرمة دماء المسلمين وحرمة الاقتتال بينهم، وتزداد هذه الحرمة فيالأماكن المقدسة كـ"مكة والمدينة"، ولقد استدل ابن حجر بموقف ابن عمر السابقوالأحاديث التي استشهد بها على وجوب طاعة الإمام الذي انعقدت له البيعة،والمنع من الخروج عليه ولو جارَ في حكمه، وأنه لا ينخلع بالفسق.
 

قلت وقد انتهت موقعة"الحَرة" بهزيمة أهل المدينة هزيمة ساحقة قُتِلَ فيها خَلْقٌ كثير، ويشهد لذلك ما ذكره سعيد بنالمسيب حينما قال: "وقعت الفتنة الأولى -يعني مقتل بن عثمان- فلم يتُبقِ من أصحاب بدر أحدًا، ثم وقعت الفتنة الثانية -يعنيالحَرة- فلم تُبقِ من أصحاب الحديبية أحدًا"،وقد قتل المئات من حملة القرآن أيضا، وقال عبد الله بن وهب عن الإمام مالك:"قٌتل يوم (الحرة)700 رجل من حملةالقرآن"، حسبت أنه قال: "وكان فيهم ثلاثة من أصحاب رسول الله".

لكن العلماء فى هذه المرة حمَّلوا يزيدًا المسئولية كاملة؛ لأنه هو الذى أمر باستباحة المدينة المنورة، قال ابن تيمية رحمه الله:"والأمر الثاني: نقض أهل المدينة لبيعة يزيد، فقد نقضوا بيعته، وأخرجوا نوابه وأهله، فبعث إليهم يزيد جيشا لإخضاعهم، وأمر القائد إذا لم يطيعوا ولم يرجعوا إلى الطاعة خلال ثلاثة أيام أن يدخلها بالسيف، وأن يبيحها مدة ثلاثة أيام، فمن زنى أو سرق أو قتل فلا يقام عليه الحد"(هذا معنى الإباحة)؛"فصار عسكره في المدينة النبوية ثلاثا يقتلون من شاءوا، وينهبون ما شاءوا، ويفتضون الفروج المحرمة، ثم أرسل يزيد جيشا إلى مكة المشرفة فحاصروا مكة؛ لأن فيها عبد الله بن الزبير، فتوفي يزيد وهم يحاصرون مكة".

رابعا: لما قٌتل عبد الله بن الزبير رضى الله عنه، وقد كان أميرا للمؤمنين ودخلت في طاعته ومبايعته الكوفة والبصرة ومصر وخراسان، والشام معقل الأمويين، ولم يبق سوى الأردنفى عهد عبد الملك بن مروان، وقد قتله الحجاج، ماذا كان موقف عبد الله بن عمر؟! كان يصلى خلف الحجاج، بل وحج معه وبايع عبد الملك بن مروان، ولم يخرج على الحاكم أو يأمر بالخروج عليه؛لأنه كان يكره اللجوء إلى العنف والاقتتال؛ لما في ذلك من سفك الدماء وإضعاف لوحدة الجماعة المسلمة، فالعلة ليست فى ثبوت الولاية الشرعية من عدمها، لكن العلة هى سفك الدماء، علما بأننا لا نثبت الولاية الشرعية فى النظام الجمهورى الحديث "فانتبه".

خامسا:"الحاكم المتغلب" لقد قامت الدولة العباسية على أنقاض الدولة الأموية على يد أبى العباس السفاح، الذى قضى على الدولة الأموية وقتل عشرات الآلاف من المسلمين. وهنا سؤال:  ماذا فعل العلماء فى عصره؟ لقد بايعوه ولم يأمروا بقتاله نظرا لعدم القدرة على ذلك، وللمفاسد المحتملة، بل وربما المفاسد المحققة. يقول الشيخ محمد بن صالح بن محمد العثيمين حمه الله فى "شرح العقيدة السفارينية" للعلامة الشيخ محمد بن أحمد بن سالم بن سليمان السفاريني رحمه الله: "(وشرطه)، أي شرط الإمام الذي يكون خليفة على المسلمين"، وعدد رحمه الله شروطا،.

وهي:الشرط الأول: (الإسلام) وهذا لابد منه، فلا يمكن أن يتولى على المسلمين غير مسلم أبدا، بل لابد أن يكون مسلما.

فلو استولى عليهم كافر بالقهر، وعندهم فيه من الله برهان أنه كافر؛ بأن يعلن أنه يهودي أو نصراني مثلا، فإن ولايته عليهم لا تنفذ ولا تصح، وعليهم أن ينابذوه، ولكن لابد من شرط مهم وهو "القدرة على إزالته"، فإن كانت إزالته لا تمكن إلا بإراقة الدماء وحلول الفوضى؛فليصبروا حتى يفتح الله لهم بابا؛ لأن منابذة الحاكم بدون القدرة على إزالته لا يستفيد منها الناس إلا الشر والفساد والتنازع، وكون كل طائفة تريد أن تكون السلطة حسب أهوائها".

ثم قال بعدها: "ولابد أن يكون على دراية ومعرفة بالسياسة، ومعرفة بالأحوال حتى يدير الحكم على ما تقتضيه الشريعة وتقتضيه المصالح .
 
وأخيرا أقول: بعد ذكر هذه الأحداث من التاريخ؛ يتضح مما سبق أنه لابد من النظر إلى مآلات الأمور، وتأمل قاعدة "القدرة والعجز" والنظر فيها، وحساب موازيين القوى والترجيح دائما بين المصالح والمفاسد، وأن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وأنه لابد من تحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، فهل نتعلم من التاريخ؟!
 والله المستعان .