الدنيا مصالح... مصرنا

  • 270

تكلمنا في المقالات الثلاث السابقة عن موضوع واحد، ألا وهو أثر المصالح على السياسات، واخترنا أوكرانيا كمثال لأثر المصالح على سياسات ثلاث دول: روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، وفي الحقيقة لم يكن الغرض شرح هذه القضية بعينها، إنما الاستعانة بقضية ساخنة لشرح مفهوم المصلحة السياسية، وذلك بغرض أن يصبح تحليل المصلحة وأثرها أحد أدوات فهم الواقع المصري، بل وتوقُّع مآل ما يحدث في بلادنا وباقي بلاد الربيع العربي، وكنت أظن أن الإشارة تكفي وأن عليَّ أن أكتفي بالمقالات الثلاث وأنتقل لأداة أخرى لفهم وتحليل الواقع، لكن أثناء لقائي ببعض الأفاضل بمدينة دمنهور جاء بسؤال يدور حول نفس الموضوع، تكلمت عن المصلحة في الخارج، فماذا عن الداخل؟

وهو موضوع حاولت أن أختار وقت أفضل للتفصيل فيه، حيث أن فترات الاستقطاب الحاد تحرِّف كل قول متزن نحو طرف من أطراف الاستقطاب، بل أحيانا يُفسَّر من الطرفين بأنه مع أو ضد الطرفين فيفسر الرأى الواحد بالشئ ونقيضه معاً.

لكن سؤال أخي الفاضل يدفعني لأن أجعل المصلحة لرابع مرة موضوع مثالي هنا سأتكلم عن الداخل وليس الخارج بشيء من الاختصار وعدم نسبة المعسكرات لأفرادها، مع بيان الخلاف الواجب بين معارك المصالح إذا كانت في الداخل بدلاً من الخارج.

في البداية نُذكِّر بصلب المسألة أن كل كيان (قوة) له العديد من المصالح التي يمكن أن تنقسم لثلاث أو أربع درجات: حيوية - هامة- ثانوية – هامشية.

القوى تدافع عن مصالحها بحسب:
(1) أهميتها، وهذا هو العنصر الأول لفهم وتوقع سلوكيات السياسي.

بالإضافة لعدة عوامل أخرى منها:
(2) قدر قوتها.
(3) فكرها، قيمها، ثقافتها السياسية.
(4) تصورها مآل أفعالها على مصالحها (العاقبة).

في هذه العناصر السابقة لا فارق بين صراع القوى الداخلية والخارجية في حلبة صراع المصالح، إنما الفارق هو طبيعة البيئة السياسية الداخلية والبيئة السياسية الخارجية (بين الدول المختلفة وما بها من قوى) هذا الفارق لابد لقوى الصراع في صراعها حول المصالح أن تعتبره بأقصى حد، إن كانت تملك أدنى حد من الرشد، تحوُّل الصراع الداخلي إلى نوع ثالث من البيئات السياسية، إنها الحرب الأهلية، هذا ما حدث في بوروندي بين التوتسي والهوتو حيث فاضت مياه الأنهار بالجثث الآدمية، وهذا ما يحدث الآن في أفريقيا الوسطى حيث يُباد المسلمون تحت حماية القوات الفرنسية، والأمثلة كثيرة حيث تستخدم أقصي وسائل الصراع الخارجي "القتل" في تصفية الصراعات الداخلية.

فما الفارق بين البيئة السياسية الداخلية وتلك الخارجية؟

لفهم الفارق نبسط المسألة لتسمية ما يحدث في الحياة كل يوم ملايين المرات عبر العالم تطور الخلاف داخل البيت الواحد الذي تسكنه أسرة واحدة، وخلاف بين جيران متباعدون هي حدود الأفعال المتوقعة في الحالين واحد.

مما لا شك فيه أن احتمال اللجوء إلى العنف المفرط في الحالة الخارجية أكبر بكثير من توقعها في الحالة الداخلية، ولهذا فإن خبر مقتل زوج على يد زوجته والعكس يحتل مساحة إعلامية في اهتمام المتابعين أكثر بكثير من خبر مشاجرة في شارع سقط فيه قتيل، هذا على الحد الأعلى من أفعال الصراع وحتى الحد الأدنى للهجر والخصام يمكن تصوره مع الجار البعيد أن يستمر سنين، أما داخل البيت فهي أيام، لماذا؟

ببساطة مصالح البيت الواحدة هي مشتركة متشابكة دائما، ولا يمكنك الاستمتاع بمصالحك الخاصة وهناك ما ينغص عليك حياتك داخل بيتك، الرجل يتحمل ويشارك في العديد من الصراعت الخارجية في العمل والتجارة والسياسة.. الخ

لكن الزوجة النكدية شيء لا يطاق بالرغم أنها لا تقوم بما يقوم به أعداء الخارج، لكن كونها في صلب البيت عندما يبحث الرجل عن الراحة يجعلها أفسد في أي شئ والعكس أيضًا صحيح.

وإذا تركنا هذه الأمثلة في الحياة الإنسانية إلى الواقع السياسي نجد أن الفكرة العامة قريبة، الولايات المتحدة الأمريكية في طريقها لحسم صراع المصالح مع اليابان في الحرب العالمية الثانية تلقي بدلاً من القنبلة الذرية الواحدة تلقي اثنان ولا تبالي، بل لو كانت عندها القدرة على تفجير كل بركان خامد بأرض اليابان لفعلت، حتى هذه اللحظة لم تكن الولايات المتحدة الأمريكية تدرك بدقة حدود وإمكانيات هذا السلاح الهائل، لهذا جربت التفجيرات النووية لأغراض قد نتعجب منها اليوم أحد هذه التفجيرات تم في المحيط الهادئ لمعرفة أثر القنبلة الذرية على الأساطيل البحرية، لكن هل فكر أحد أن يحل بهذه القنبلة مشاكل داخل حدود الاتحاد الأمريكي أو بالقرب منها؟ بالقطع لا. لماذا؟ لأن ما يمكن استخدامه في البيئة السياسية الدولية الخارجية (الخارج) لا يمكن استخدامه في البيئة السياسية الداخلية (البيت).

هكذا لا يكون مستغرباً عدد القتلى المقدر بـ50 مليون قتيلاً نتيجة الحرب العالمية الثانية، أما إسقاط 528 فهذا باب أخر وإن كان يمكن تبريره بـ (محاولة دخول موسوعة جينيس للأرقام القياسية!).

البيئة السياسية الداخلية في الأصل هي بيئة تقوم على السلام الاجتماعي والتعايش البنَّاء واقتسام خيرات البلد الواحد بميزان العدل والشفافية، باختصار هي بيئة المصالح المستأنسة، القوى متعارضة متنافسة متخاصمة أحيانا لكنها في النهاية مستأنسة لا وحشية، وتفعل كل مكونات المجتمع  تصب في النهاية لتكون قوة واحدة هي قوة الدولة التي تصارع كرجل واحد في الصراع الخارجي الذي لا يحترم إلا القوي ويأكل الضعيف ومصالحه، بل يأكل الضعيف فيه مصالح من هو أقوى منه إذا شعر أنه يمر بمرحلة ضعف، وما سد النهضة منا ببعيد، والأقرب منه حقول غازنا الطبيعي الذي يسلب منا جهاراً نهاراً في البحر المتوسط ونحن نعاني من فقر في الطاقة وفي المياه، لماذا؟ لأننا لم نحترم صورة صراع المصالح التي يجب أن تكون عليها داخل الدولة الواحدة، الحمقى من كل جانب يستخدمون أدوات هي أصلح للصراع الخارجي منها للصراع الداخلي فتضيع مصالحنا الكلية تحت وقع معركة بغيضة شعارها لا صوت فوق صوت المعركة، وهي معركة من سيفوز بها سيفوز بشبح دولة وبكيان ينعق من حوله البوم.

حزب النور الذي كان يدعو للوئام منذ زمن يكاد يكون وحيداً في محاولته للخروج من تيه الصراع العقيم إلى وئام خير يحفظ لكل الطوائف والكيانات مصالحها تحت مظلة الشريعة الإسلامية، التي هي ميزان العدل الوحيد في عالم الظلم والظلمات الآن، فهل يستجيب لنا المتخاصمون، هل يستجيبون لصوت العقل، أم يستجيبون عندما ينهكهم صراع لا تبدو معه نهاية، أم ننتظر قارعة خارجية توحدنا داخلياً، أم تكون الأمور أقرب من ذلك؟ سؤال ستُجيب عليه الأقدار، والعاقبة للتقوى.