عاجل

رسالة إلى القضاة ... احذروا قاضى السماء

  • 178

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد..

فمن أهم الوسائل التي يتحقق بها القسط وتحفظ بها الحقوق وتصان بها الدماء والأعراض والأموال هي إقامة النظام القضائي الذي فرضه الإسلام وجعله جزءًا من تعاليمه وركيزة من ركائزه التي لابد منها ولا غنى عنها.

إن الشريعة الإسلامية وسائر الشرائع الإلهية، قد جاءت لتحقيق مصالح الناس، ولا شك في أن وجود القضاء في المجتمع الإنساني، هو إحدى الوسائل المحققة لهذه المصالح، فبه تحمى الحقوق وتصان عن الانتهاك، ويزال بواسطته تعدي الناس بعضهم على بعض، وهو أحد المناصب العظيمة التي تحقق العدل وتمنع الظلم، وترسي الحق، والعدل هو أحد مقاصد الشريعة الإسلامية الغراء، قال تبارك وتعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} . والقسط هو العدل، فهما كلمتان مترادفتان، وأي طريق أدى إلى الوصول إلى العدل بين الناس كان مطلوبًا في الشرع.

قال ابن القيم: "إذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريقة كان، فثم وجه الله ودينه،وقد أمر الله تعالى بالعدل في الحكم قال تعالى  {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (النساء 58) وقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (8 المائدة) والقضاء من عمل الرسل عليهم الصلاة والسلام، يدل على ذلك قوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} وقد ورد في القرآن الكريم في غير آية ما يشير إلى ذلك، منها قوله تعالى: {احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} وقوله: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.

وأما السنة المطهرة فتدل لمشروعية القضاء أحاديث كثيرة منها ما رواه عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر».

وأول من تولى هذه الوظيفة في الإسلام هو الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فالقضاء من أجّل الوظائف وأسمى الأعمال، ومن أقوى الفرائض، قد أمر الله به جل جلاله، وبعث بها رسله، فقاموا به صلوات الله وسلامه عليهم أتم قيام، وقام به من بعدهم أئمة العدل امتثالا لأمره سبحانه وتعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105].

و لم تكن السلطة التنفيذية منفصلة عن السلطة القضائية في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان يتولى الفصل في الخصومات بنفسه تطبيقا لأحكام الشريعة الإسلامية، وكان عمر رضي الله عنه أول من عين القضاة في الأقاليم للفصل في الخصومات وفقا لأحكام الشريعة.

وقد رهب الإسلام من هذه الوظيفة فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ جُعِلَ قَاضياً فكأنما ذُبحَ بِغيرِ سِكِّينٍ" (صحيح أخرجه أحمد وغيره ). عن عائشة سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يؤتى بالقاضي العدل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب، ما يتمنى أن لم يقض بين اثنين في تمرة فقط» (أخرجه أحمد ) وأخرج ابن عساكر عن مكحول قال: "لو خُيرت بين القضاء وبين ضرب عنقي لاخترت ضرب عنقي.

وأخرج ابن عساكر عن أبي زُرعة الثقفي قال: "عرض يحيى بن خالد القضاء على عبد الله ابن وهب المصري فكتب إليه: إني لم أكتب العلم أريد أن أحشر في زمرة القضاة، ولكني كتبت العلم أريد أن أحشر به في زمرة العلماء.

وقد رفض أبو حنيفة وسفيان الثوري وغيرهما تولى منصب القضاء لشدة خطره.

وقد رغب الإسلام في الحكم بين الناس بالحق وجعله من الغبطة: روى البخاري عن عبد الله بن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس ".

ووعد القاضي العادل بالجنة، فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة، ومن غلب جوره عدله فله النار "أخرجه أبو داود.

وعن عبد الله بن أبي أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله مع القاضي ما لم يجر فإذا جار تخلى الله عنه ولزمه الشيطان " (أخرجه ابن ماجة والترمذي ).

ولا يقضي بين الناس إلا من كان عالما بالكتاب والسنة وقد ذكر الله لنا المثل الأعلى في القضاء فقال جل شأنه: { يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}، وإذا كان هذا الخطاب موجها إلى داود عليه السلام فهو في الواقع موجه إلى ولاة الأمور لأن الله لم يذكر ذلك إلا ليبين لنا المثل الأعلى في الحكم وأن داود وهو نبي معصوم يخاطبه الله بقوله: { وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.

وعن أبي بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار".

فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار "أبو داود والترمذي والنسائي".

فعلى القضاة أن يتقوا الله تعالى وأن يكونوا على يقين بأن الله تعالى سيسألهم عن أعمالهم وأحكامهم التي حكموا بها في الدنيا.

فاحذر أيها القاضي من أن تحكم على بريء بالعقوبة وأنت تدري أو أن تحكم على مذنب بالبراءة وأنت تدرى واعمل على مرضاة الله واحذر من قاضى السماء فإنه لا تضيع عنده مثقال ذرة . والله المستعان.