المداومة هي الغاية

  • 160

إنَّ بلوغ رمضان لنعمةٌ عظمى ومِنحةٌ كبرى، لا يقْدُرُها حق قدرِها إلا الموفَّقون، فلقد كنّا بالأمس القريبِ نتشوق للقائه، ثم-ولله الحمد -تنعمنا ببهائه، وعشنا في نفحاته لحظات مرَّت مرور الطيف، ولمعت لمعان البرق.

فخرج المسلم منها بصفحة مشرِقة بيضاء ناصعةٍ، مفعمَة بفضائل الخصال، مبرأةً من سيئات الأعمال، قد استلهم الصائم الصادق المحتسب من مدرسة رمضان قوَّةَ الإرادة والعزيمة على كل خير، وتقوى الله في كل حين، تقويمًا للسلوك، وتزكية للنفوس، وتنقيةً للسرائر، وإصلاحًا للضمائر، وتمسُّكًا بالخيرات والفضائل، وبُعدًا عن القبائح والرذائل؛ فغدا الصوم لنفسه حصنًا حصينًا من الذنوب والمآثم، وحمى مباحًا للمحاسن والمكارم، فصفتْ روحه، ورقَّ قلبه، وصلحتْ نفسه، وتهذَّبتْ أخلاقه.

هذا في الدنيا أما في الأخرى فقد قال -صلى الله عليه وسلم -: " الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ "، قَالَ: " فَيُشَفَّعَانِ "[أخرجه أحمد:6626، وضعفه الألباني، وقال:شعيب الأرناؤوط: إسناده ضعيف].

أما من اتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، فأمضى ليالي رمضان المباركة في لهو ومعصية، ونهاره في نوم وغفلة، لم يرعَ للشهر حرمته، وتجرأ على الحرمات، فليبكِ لعظيم حسراته، وليسعَ لاستدراك ما فاته؛ لئلا يكون ممن قال فيه -صلى الله عليه وسلم -:
"أَتَانِي جِبْرِيلُ فقَالَ يَا مُحَمَّدُ مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ قُلْتُ آمِينَ"[أخرجه ابن حبان في صحيحه:2/ 140 وبرقم:409، وقال شعيب الأرناؤوط: حديث صحيح لغيره ]، إنه وإن انْقَضَى شهرُ رمضانَ فإن عمل المؤمنِ لا ينقضِي قبْلَ الموت، قال الله - عزَّ وجلَّ -:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]، وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلّم -:"إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ" [أخرجه مسلم: 1631]، فلم يَجْعلْ لانقطاع العملِ غايةً إلا الموت.

ولقد فقه سلفنا الصالحون عن الله أمره، وتدبروا في حقيقة الدنيا، ومصيرها إلى الآخرة، فاستوحشوا من فتنتها، وتجافت جنوبهم عن مضاجعها، وتناءت قلوبهم من مطامعها، وارتفعت همتهم عن السفاسف؛ فلا تراهم إلا صوامين قوامين، باكين عابدين، ولقد حفلت تراجمهم بأخبار زاخرة، تشي بعلو همتهم في التوبة والاستقامة، وقوة عزيمتهم في العبادة والإخبات، وهاك طرفًا من عباراتهم وعباداتهم، التي تدل على تشميرهم وعزيمتهم وهمتهم:
قال الحسن: "من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياه فألقها في نحره."، وقال وهيب بن الورد: "إن استطعت ألا يسبقك إلى الله أحد فافعل."، وقال الشيخ شمس الدين محمد بن عثمان التركستاني: "ما بلغني عن أحد من الناس أنه تعبد عبادة إلا تعبدت نظيرها وزدت عليه".

وكان أبو مسلم الخولاني يقول: "أيظن أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم -أن يستأثروا به دوننا؟! كلا والله … لَنُزاحمَنَّهم عليه زحامًا؛ حتى يعلموا أنهم قد خلفوا وراءهم رجالاً".
قال عمر بن الخطاب: "إن لهذه القلوب إقبالاً وإدبارًا، فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل، وإن أدبرت فألزموها الفرائض".

فيا عجبًا لإنسان عاقل يعود إلى مرارة المعصية بعد أن ذاق حلاوة الطاعة!!

فلئِن انقضى صيامُ شهرِ رمضانَ، فإن المؤمنَ لن ينقطعَ من عبادةِ الصيام والقيام والصدقة والذكر وتلاوة القرآن؛ فصيامَ ستًّا من شوالٍ بعد رمضانَ كصيام الدهرِ... وكذلك صيام ثلاثةِ أيام من كلِّ شهرٍ؛ فقافلة العمَل الصالح التي لا تتوقَّف رحالها، ولا تتصرم حبالها، فطاعة الله هي الطريق إلى رضاه، والاستكثار من العبادة يحوِّلُ الأشقياءَ إلى سعداءَ، وتجلب محبة الله لعبده، والدفاعِ عنه إذا أصابه من غير الله مكروه.

والمداومة على الأعمال الصالحة تُطهِّر القلوبَ، وتزكّي الأنفسَ، وتُهذب الأرواحَ، وتُريح الأبدانَ، وتُسعدُ العبدَ في الدنيا والآخرة.