العدل مع الخصوم

  • 214

أنت تُصدِّق هذا الخبر أو تلك الإشاعة عن خصومك بدون تثبت؛ لأنك فقط تريد أن تُصدِّقها؛ تنسى أية حسنة، وتُضخِّم أية سيئة؛ ترد الحق إن أتى مِن طريق خصومك، وترحب بالباطل وتسوق له إن أتى مِن طريق أحبابك .. لا تقلق، لست أتهمك وحدك، بل أنا وبيتى ومدينتى ومصر كلها معك .. إلا من رحم ربى!
 
تأمل إنصاف عمار بن ياسر رضي الله عنه وهو يومئذٍ في معسكر على بن أبي طالب مواجهًا ومخاصمًا معسكر أم المؤمنين عائشة ومعها طلحة والزبير ونفر مِن كبار الصحابة؛ أُرسل عمار إلى الكوفة فقام في الناس خطيبًا يفسر لهم وجهة نظر معسكره، فلما أتى على ذكر مَن يُفترض أنهم خصومه وسيلقاهم بعد قليل في معركة الجمل؛ قال: «إن عائشة قد سارت إلى البصرة؛ ووالله إنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم -اختبركم- ليعلم إياه تطيعون أم هي»، بل لـمَّا حاول رجل أحمق متعصب أن ينال مِن عائشة بحضرته؛ استشاط عمار غضبًا وقال: «اغرب مقبوحًا، أتؤذي حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟».


والإنصاف كان بينهما متبادلًا رضوان الله عليهما، ولا عجب؛ فكلاهما نتاج تربية إيمانية فريدة الطراز؛ فبعد أن انتهت معركة الجمل، التقاها عمار فخاطبها بأدب جم معاتبًا: «ما أبعد هذا المسير مِن العهد الذي عُهد إليك -يقصد الإشارة إلى قول الله تعالى: "وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ"- فقالت -تشهد له بالفضل-: والله إنك ما علمت لقوَّال بالحق، فقال: الحمد لله الذي قضى لي –يعني: حكم لي- على لسانك».
«ومَن سلك طريق الاعتدال عظَّم مَن يستحق التعظيم وأحبه ووالاه، وأعطى الحق حقه؛ فيعظم -بذلك- الحق ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات؛ فيُحمَد ويُذَم، ويُثاب ويُعاقَب؛ ويُحب مِن وجه ويُبغض مِن وجه» .. هذا هو المنطق الذي يصعب علينا الآن تقبله، وقد صاغه الإمام ابن تيمية في سطرين في وقت كان يكابد فيه اجتماع الخصوم عليه ورميه بالبهتان واختلاق الأكاذيب ضده ما تنوء بحمله الجبال.