السياسة الشرعية النبوية بين التَّوكّل والأخذ بالأسباب (1)

  • 257


إن من أكبر المُعضلات في العمل الإسلامي المعاصر، الاختلاف الواسع إلى حد التناقُض بين اتجاهاته المختلفة لقضية التغيير والإصلاح والجهاد في سبيل الله، وأثر موازين القوى في قرارات الفصائل الإسلامية في المواقف المختلفة، والنظر في مآلات المعارك المُحتملة أو المُنتظرة والصدامات، وأثر هذا النظر أيضًا في مواقف المسلمين ممن يخالفهم سواءً كانوا مسلمين أو كفارًا أو منافقين، وموقف الدول الإسلامية والجماعات الإسلامية المختلفة من مسائل العهود والعقود، الطريقة التي يتصرف بها المسلم الحريص على دينه ونصرته ونصرة المستضعفين من المسلمين، الذين ينالهم من ألوان العذاب والاضطهاد والقتل والتعذيب والسجن وأنواع الأذى ما يضاهي مجازر التاريخ الكبرى.
وهل تختلف هذه الطريقة والمسلم في بلاد الإسلام سواء التي حكمتها الشريعة أو حكمتها القوانين الوضعية، وأيضًا التي استقرت فيها أنظمة والتي مازالت تترنح تحت وطأة الفوضى والانقسام؟، وكذا طريقة تعامل المسلم في بلاد الكفر وبأي طريقة دخلها، وعلاقته بأهلها سواء كان مقيمًا إقامة دائمة أو مؤقتة أو مجرد زائر لمصلحة، كل هذه المسائل -وفي طيّاتها مسائل تفصيلية مهمة- صارت تتكرر تداعياتها بطريقة شبه يومية هنا وهناك في بلادنا وفي غيرها، فكل يوم حادث، وكل يوم تفجير، وقتل للنفس للوصول إلى الغاية المحمودة، واعتداءات على أصناف الناس مسلمين وغير مسلمين، ويختلف الشباب فيما بينهم أشد الاختلافات
التي تصل إلى حد التناقض التام في أعمال القلوب والأقوال والأعمال الفردية والجماعية، وتصل أحيانًا إلى التكفير والتضليل والتبديع، وأغلب من يتكلم، يتكلم بغير علم، وبحدة بالغة على من يخالفه كأن الأمر قطعي أو معلوم من الدين بالضرورة في مسائل يتوقف فيها كبار العلماء مع أن توقفهم ليس حلًا للمشكلة.

فكل يوم يتجه مئات الشباب -تحت ضغط العواطف والآلام والمحن- إلى الاتجاهات المنحرفة التكفيرية المتناقضة فيما بينها، والتي تجد المجتمعات المسلمة سوء العذاب بسببها، وسكوت أهل العلم يترتب عليه المزيد من الفتن، وهذه طبيعة فتن آخر الزمان، التي يكثُر فيها الجهل، ويقل فيها العلم، وتكثُر فيها الفتن، ويكثر الهرج "القتل.. القتل"، يقتل الرجل أخاه وعمه وابن عمه وجاره ورفيقه وقرينه في العمل الإسلاميّ بلا عقل ولا رؤية ولا نظر، مما يُمثل مأساة هائلة للمسلمين، نسأل الله أن يخرجهم منها.
خصوصًا أن مخطط الفوضى الخلاقة للدمار والفساد، الذي دبره الأعداء وأعلنوه ولم يخفوه، والذي يهدف إلى تقسيم دول المسلمين -المقسمة أصلًا- إلى دويلات أصغر لا تقوى على فعل شيء إلا تدمير بعضها البعض، أو على الأقل مناطق النفوذ، يقتل بعضهم بعضًا كما هو حاصل في عديد من البلدان.

هذا المخطط لا يتم إلا على جثث الملايين من الضحايا وأضعافهم من الجرحى، وأضعاف أضعافهم من المشردين واللاجئين، فهكذا حدثنا التاريخ عن انقسام الدول أو نشأتها واندماجها، ومع ضعف العلم تزداد المحن، ومع اختلاط المعاني الحقة بالباطلة؛ تشتد الحاجة إلى معرفة السياسة الشرعية النبوية، خاصة في قضية من أعظم القضايا، هل كان التوكل عند النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام منافيًا للأخذ بالأسباب ومناقضًا لدراسة موازين القوى ومآلات الأحداث، أم كان حاله -صلى الله عليه وسلم- جامعًا بين الأمرين، سائرًا على القدمين لا على واحدة، ناظرًا بالعينين لا بواحدة ؟.
وإن معرفة ذلك من خلال آيات القرآن التي قلّ الاستدلال بها، ومن خلال الأحاديث الصحيحة التي قلّ من يعرف فقهها، ومن خلال الوقائع الثابتة من السيرة والتفاصيل التي ذكرها أهل السير التي يستأنس بها مع الأدلة للوصول إلى الصورة الصحيحة لطبيعة هذه السياسات الشرعية النبوية.
نقول إن معرفة ذلك قد يجنبنا الكثير من الآلام والمحن والفتن والخسائر، التي نتعرض لها، وتتعرض لها بلادنا ومجتمعاتنا، ويبعدنا عن التخوين والتكفير، والحكم بالنفاق على بعضنا مما يضاعف الانقسام والمحن والآلام.

 وسنحاول في هذه المقالات استعراض السياسة الشرعية النبوية في مراحل الدعوة النبوية المختلفة، مع مراعاة قضية عظيمة الأهمية وهي قضية النسخ، فإن التصرفات النبوية قد بلغت حدًا من التنوع والتعدد لابد من فهمه، وفهم علله، ومعرفة هل نسخ الآخر منها الأول؟، وهل هذه طريقة أهل العلم أم يُعمل بكل نوع منها في أحوال مختلفة حسب الأوصاف المؤثرة التي ربطت الأدلة بها؟

هذا الاختلاف في التصرف لأن كثيرًا من الاتجاهات الإسلامية قد فرض على نفسه نمطًا واحدًا من التعامل، ظنَّهُ ناسخًا لما سبقه، وقد حَمَّل نفسه وجماعته وأمته ما لا تُطيق، حتى يَفْرِضُ عليه الواقِعُ وضعًا هو أسوء بكثير مما كان يتهم من يقبله بالعمالة والخيانة وتضييع الدين، ولو علم أن الواجب على المسلمين أن يعملوا في كل وقت وحال بمثل ما عمل به النبي -صلى الله عليه وسلم- في مثل حالهم؛ لحققوا أعظم المكاسب والمصالح لأمتهم، وجنبوهم أكبر الخسائر والمفاسد، وذلك لأن اصطلاح النسخ عند السلف أوسع مما صار مستعملًا في النسخ الاصطلاحي، وهو إزالة الحكم بالكلية، بل السلف يستعملون النسخ في تخصيص العام، وتقييد المُطلق وفي نسخ الاصطلاح المعروف، والدراسة الشاملة لكلام العلماء وطريقتهم وإثباتهم الأحوال المختلفة للمسلمين؛ تؤكد أن هذه الطريقة لا يختلفون فيها حقيقة، بل اختلفوا في الألفاظ، لكن اتفاقهم على الأحكام يرفع الإشكال عند التأمل.

ولنبدأ في دراسة السياسة الشرعية النبوية في المرحلة المكيّة، ثم بعد ذلك المراحل المختلفة في المدينة، قال تعالى:  {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوٓاْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً  وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ لَوْلَآ أَخَّرْتَنَآ إِلَىٰٓ أَجَلٍۢ قَرِيبٍۢ  قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا}، هذه الآية من أصرح الآيات في إثبات أن المسلمين أُمروا شرعًا في المرحلة الأولى لدعوة الإسلام بكف الأيدي عن القتال والاهتمام بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم فُرض القتال عليهم بعد ذلك، فكان القتال منهيًّا عنه في هذا الوقت، وهذا الحكم معللٌ عند عامة أهل العلم بضعف المسلمين وقدرتهم، كما أشار إليه القرآن في التخفيف عنهم في الثبات أمام عدوهم لضعفهم بعد ذلك، {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}.

فالقتال في تلك الحال كان يؤدي لاصطدام المسلمين وإبادتهم، قال ابن القيم -رحمه الله- في زاد المعاد عن هذه المرحلة: "والله أمرهم بالصبر والعفو والصفح، حتى قويت الشوكة، واشتد الجناح، فأذن لهم بالقتال، ولم يفرضه عليهم، فقال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ وقال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في الصارم المسلول: "فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف فليعمل بآيات الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين"، وقال النووي –رحمه الله-: "لو أسروا –أي الكفار- مسلمًا أو مسلِمَيْن، هل هو كدخول دار الإسلام؟، وجهان: أحدهما لا، لأن إزعاج الجنود لواحد بعيد، وأصحهما نعم، لأن حرمته أعظم من حرمة الدار، فعلى هذا لابد من رعاية النظر؛ فإن كانوا على قُرب من دار الإسلام، وتوقعنا استخلاص من أسروه لو طرنا إليهم، فعلنا، وإن توغلوا في بلاد الكفر ولا يمكن التسارع إليهم، وقد لا يتأتي خرقها بالجنود، اضطُررنا إلى الانتظار، كما لو دخل ملك عظيم الشوكة طرف بلاد الإسلام، لا يتسارع إليه آحاد الطوائف، وفي الحديث الصحيح: "اتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ، ودَعُوا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ"، وهذا أمر بترك القتال مع الترك طالما لم يقاتلونا، وكذا مع الحبشة.

سمات هذه المرحلة

1-      تجنب المواجهة المسلحة "إني لم أومر بقتال".

2-      الثبات التام على الدين اعتقادًا وعملًا ودعوةً، وهذا هو الجهاد في هذا الوقت، قال تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}.

3-      أمرُ المسلمين بالصبر، والعمل البنائي العلمي التربوي من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وتحصيل التزكية.

4-      الحذر من التنازلات المنهجية {قلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}.

5-       الاهتمام بتقوية الروابط  بين المسلمين ومنع تسرُب اليأس إلى قلوبهم وتبشيرهم بقُرب الفرج

وللحديث بقية..