تَأمُّلَات إِيمانيَّة في سُورةِ الأَحْزَاب

  • 269

الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- أما بعد:

غزوة الأحزاب نقطة فارقة، نقطة تحول في تاريخ الإسلام وأهلِه؛ بعد انتهائها قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الآن نغزوهم ولا يغزوننا"، وهذا من معجزاته الظاهرة -عليه الصلاة والسلام-.

انكسرت هِمّة المشركين في غزو الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين، وأعقَبَها بعد ذلك أمر الحديبية، وأوشك أن يقع قتالٌ المسملون فيه هم الذين يحاصرون المشركين أو هم الذين أتو إلى مكة، ثم ماكان بعد ذلك من فتح مكة الفتح الذي أَعَزَّ الله به الدين.

ظَلَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- يذكر فضل الله -عَزَّ وجَلَّ- في "الأحزاب" في دعائه، وفي المجامع الكبرى، يثني على الله -سبحانه وتعالى- به في المشاعر العظيمة.

كان من دعائه -عليه الصلاة والسلام-: "اللهم مُنزِل الكتاب، ومُجْرِي السحاب، وهازِم الأحزاب، سريع الحساب؛ اهزم الكافرين والمنافقين، -أو اهزمهم- وزلزلهم، وانصرنا عليهم" وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم على الصفا والمروة: "لا إله إلا الله وحده، أَنْجَزَ وَعْدَه، ونَصَر عبده، وهزم الأحزاب وحده".

ومَنْ تَأَمَّلَ السورةَ كُلَّها؛ وجد في أَوَّلِها ذكر الغزوة، وما فيها من الثناء على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه الأُسْوَة الحسنة، هذه الآية الجامعة: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا"..

والنصف الثاني منها في تهيئة الأمر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبيان منزلته الشريفة، وبيان فضلِه على العالمين، وبيان صلاة الرب -عَزَّ وجَلَّ- عليه، وصلاة ملائكته في الملأِ الأعلى، وتهيئة الأمر له في بيوته -عليه الصلاة والسلام-، وإرضاء من يعاشرهن من النساء؛ حتى لايشغله هذا الأمر.

فهذه السورة تضمنت تهيئة الشأن والأمر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ورفعت قدره أعظَمَ رَفعٍ، وما خاطبه الله به: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا"؛ فالرسول مُبَشِّرٌ للمؤمنين بالجنة، ومُنذِرٌ لمن عصاه وخالَفَ أمرَه وكَفَر به بالنار، وشَاهِدٌ على العالم كله بأنه بالوحي الذي أنزله الله -سبحانه وتعالى- عليه يشهد هو وأُمَّتُه على أُمَمِ الأنبياء جميعًا، بشهادة الله -عَزَّ وجَلَّ- لهم في القرآن، "شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا".

"وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ"؛ فعَمَّتْ دعوةُ التوحيد أرجاء الأرض بدعوته -عليه الصلاة والسلام- بعد أن كادت دعوة التوحيد تندثر من الأرض إلا قليلًا من أهل الكتاب، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله نَظَر إلى أهلِ الأرضِ فمَقَتَهُم عَرَبَهُم وعَجَمَهُم إلا غُبَّرَ من أهلِ الكتاب".

وأما "السراج المنير"؛ فبيان النور الذي في شخصه -صلى الله عليه وآله وسلم- فيما جاء به من الشرع، وفي الصفات العظيمة التي تحلي بها، وأقام الشرع بها، وأقام القرآن بها، فكان خُلُقُه القرآن؛ فجَمَع الله -عَزَّ وجَلَّ- فيه النور الذي جَعَله لمن سَبَقه من أنبياء الله ورسله، حتى صار كالشمس -"السراج المنير"- لكل من أراد الهداية من خَلْقِ الله -سبحانه وتعالى- بعد بعثته، لابُدَّ وأن يتبعه ويطلب النور من خلفه -عليه الصلاة والسلام-، يطلب أن يهتدي بِهُداه الذي هداه الله به -صلى الله عليه وسلم-.

وكل هذا بالأحوال التي قام بها النبي -صلى الله عليه وسلم- في المواقف كلها، وفي غزوة الأحزاب كان القيام بهذا على أعلى ما يكون؛ وذلك أن الغزوة كان فيها من المِحْنَةِ والشِدَّةِ ما لم يتكرر قبل ذلك، يكفي أن العرب لم تجتمع قط بهذا العدد -عشرة آلاف مقاتل- مع تحالف مع اليهود، لم يجتمعوا قط في تاريخهم، اجتمعوا على حرب الإسلام، وسبحان الله كَسَرَ اللهُ ذلك كله.

ومن أهم أوصاف النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الأحوال الشديدة: كثرة اللجوء إلى الله -عَزَّ وجَلَّ-، والتضرع، وكثرة الصلاة؛ كان يقيم الصلاة -صلى الله عليه وسلم- في الليل وأصحابُه لا يستطيع أحَدُهُم أن يتحرك من شدة الجوع وشدة البرد وشدة الخوف، وتناقص عدد المسلمين معه؛ إذ ذهب أكثَرُهم إلى البيوت -منهم من هو صادقٌ، ومنهم من هو مُتَعَلِّلٌ بأن البيوت عورة- كانوا في أول الغزوة ثلاثة آلاف في مواجهة عشرة آلاف من المشركين، ويوم انصرف من "الأحزاب" كانوا ثلاثمائة وزيادة طفيفة.

فكل هذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يواجِهُه بكمال التوكل، وكمال التفويض، وكمال الدعاء والتضرع؛ لنتعلم كيف نفعل عندما تشتد الخطوب.

نلجأ إلى الله؛ فيهزم الله -عَزَّ وجَلَّ- كل من تحَزَّبوا على الحق واجتمعوا ضده، يصرف أذاهم بكثرة الصلاة، باللجوء إلى الله -سبحانه وتعالى- والتضرع له، وزيادة الإسلام والإيمان.

زيادة الإسلام -عندما تاتي المِحَن بزيادة الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة، وهكذا.. زيادة الطاعة فيما يتعلق بسائر الأمور، وأما الإيمان فهو الأحوال القلبية، "وَمَا زَادَهُم إِلّا إِيمَانًا وتَسْليمًا".

فهم ازدادو إيمانًا وإسلاما؛ ازدادوا إسلامًا بالطاعات، وازدادو إيمانًا بالثقة بوعد الله، واليقين به، والتصديق بما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-، "وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا".

فلابُدَّ وأن نعلم أن الأحوال الإيمانية المُستفادة من هذه الغزوة وهذه السورة هي وقود المؤمنين دائما في مواجهة من تَحَزَّبوا على دين الإسلام يريدون إِسْقَاطَه وإِذْهَابَه.

نسأل الله -عَزَّ وجَلَّ- أن يحفظ الدين، وأن ينصر الإسلام والمسلمين.