المشروع التركي بين تحليل الليبراليين وأحلام الحركيين

  • 843
1

للإنصاف أقول إن كثيراً من المحللين السياسيين من غير الإسلاميين الحركيين ، من ليبراليين وقوميين وغيرهم ، في هذه السنوات يقتربون من الصحة في توصيف  الواقع السياسي في الشرق الأوسط في العشر السنوات الأخيرة ، أكثر بكثير ممن يشتغلون بالتحليل السياسي من المنتمين للحركات الإسلامية الذين يغلب الخطأ على توصيفهم الأحداث منذ انطلاقة الثورة التونسية وحتى الْيَوْمَ! نعم أَخْتَلِفُ كثيراً مع هؤلاء في  التفسير والاستنتاج والاستشراف؛لكني قليلاً ما أختلف معهم في توصيف الواقع السياسي ، وكثيراً ما أختلف مع نظرائهم الإسلاميين الحركيين في هذا الأمر ،والسبب في ذلك أن المحللين الإسلاميين ومعظمهم من الحركيين ، أو من المتأثرين بالاتجاه الحركي الحزبي ، لا يصفون الواقع كما يبدو على الحقيقة ثم يقومون بتحليله ؛ بل يصفون ما يحبونه ومن يحبونه كما يتمنون أن يروه ، ويصفون ما يبغضونه ومن يبغضونه على أسوأ ما يريدون أن يروه ؛ وبذلك ،فهم وإن كانوا إسلاميين في ادعائهم  ،إلا أنهم ليسوا كذلك في أدائهم المعرفي السياسي ؛ وذلك لأنهم لا ينطلقون في هذا التوصيف من الحدث ذاته ؛ بل من الرؤية الإعلامية التي يريد الحزب والمؤسسات الداعمة له أن تسبغها على الواقع ويجعل الجميع يُبصرونها أو يتوهمون أنهم يبصرونها .


وليس ذلك لأن الليبراليين والقوميين  أكثر عدلاً ونزاهة وأكثر بصيرة ؛ وإنما لأن استراتيجيتهم حتًَمت أن توافق نظرتُهم نظرة حكومات 


 المنطقة وأخص حكومة بلادنا والحكومات المقتربة منها ؛ وما تؤكده الأحداث أن نظرة بلادنا والدول القريبة منها للخطوط العريضة للواقع السياسي وما وراءه ،والتي ينشرها إعلامها الرسمي وتصريحات قادتها ومسؤوليها ،هي النظرة الصحيحة أو الأقرب للصواب ، وكل يوم لا تزيد الأحداث صحتها إلا جلاءً وتأكيداً لقربها من المطابقة لما عليه الحال ؛ دعك من التفاصيل الدقيقة للواقع فهذه محل وجهات نظر حتى داخل الحكومة الواحدة ؛ وقد اختار أكثر البارزين إعلامياً المراقبين السياسيين من غير الإسلاميين الحركيين من وطنيين وليبراليين وقوميين وغيرهم  بعد نهاية الثورات الانحياز إلى جانب الحكومات ،فتبنوا الحقائق العريضة التي تطرحها حكومات هذه الدول ، لذلك جاء وصفهم للواقع صحيحاً ، وبذلك جاء استشرافهم للمستقبل وتحليلهم للواقع -سواء اتفقتَ معه أو اختلفت-أكثر منطقية واتساقاً وتصادقاً مع الأحداث .


أما الحركيون الإسلاميون ففي الغالب اختاروا الموقف المتعاطف مع الثورات المُشكك في الحكومات قاطبة ما عدا حكومتي قطر وتركيا، لكونهما قادتا مواقف الحركيين الإسلاميين ،أو لنقل بالتحديد مواقف جماعات الإخوان المسلمين  ،واستثمرتاها ؛وأصبح الإخوان ومن تعاطف معهم لا ينظرون إلا بعين الإعلام القطري ،والإعلام التركي الناطق بالعربية ، ومن ينظر بعيني تركيا وقطر لا يمكن أن يرى الواقع على حقيقته؛ بل بالزيف المطلوب رؤيته من مراكزهم.


الإخوان كقيادات حزبية وكعناصر فاعلة في التنظيم ،لاشك أنهم يعتمدون الرؤية المزيفة للواقع بدوافع استراتيجية ،أما القواعد الشعبية للتنظيم والمتعاطفين معه ،فإن الواقع يتزيف أمامهم بحِجاب الأحلام ، فهم لا ينظرون إلى سياسات الجماعة والدُّول الداعمة لها بالعين المجردة وإنما بأعين حالمة ليس لها تصور للإصلاح إلا عن طريق البطل المُخَلِّص والشاطر حسن وشمشون الجبار ؛ ولهذا فكل الأحداث يجب عندهم أن تدور بهذه الطريقة : الكل يحارب البطل ،والبطل يتعرض للنكبات ،وفي النهاية البطل سوف ينتصر ويقضي على الكل .


وأُصُول هذه الطريقة في النظر إلى الأحداث هي نفسها التي تستخدمها الجماعات التكفيرية كداعش والقاعدة ؛ الفارق الوحيد هو أن طريفة الإخوان أقل إقداماً من داعش والقاعدة ،وأكثر نفعية وأيسر تلونا وتفلتاً من التزاماتها الأخلاقية والمبدئية من أجل الحفاظ على مكان أبطالها من الحُلُم  ، وكذلك أكثر جذبا للعاطفيين.


لهذا  لا يمكن لهؤلاء المحللين الحركيين الإسلاميين أن يروا تركيا وقطر وجماعة الإخوان المسلمين في مكانهم الصحيح في الواقع السياسي الراهن ؛ وهو مكان المتآمر الخطير العامل في الشرق كذراع لصناعة المشروع الصهيوني في المنطقة والمشروع الصفوي الإيراني  [شعر أم لم يشعر] ليس لأن معالم هذه الصورة غير جَلِيَّة ؛ بل لأنها تتنافى مع الحُلُم الذي يُحَتِّم أن يكون البطل الذي يحاربه الجميع ثم ينتصر موجوداً في الصورة ،شاء الواقع أم أبي! وقطر وتركيا هما – في نسجهم- ذلك البطل ، إذاً فلا بد أن يكون المشهد هكذا : تركيا وقطر  تعملان من أجل قهر الغرب وطرد إسرائيل وإعادة وحدة الأمة ، والعالم كله يحاربهما من أجل هذا المشروع ! 


فمهما قَدَّمت من براهين كالشمس تثبت عكس ذلك فلن يصدقوها ، لا لأنك لا تمتلك الدليل المُشَاهَد على صحة ما ترى ووهم ما يرون ؛ بل لأن ما تراه مخالف للحُلُم الذي يعيشونه ويريدون الجميع أن يعيشه معهم بالقوة .


أضرب مثلاً لذلك بِحَدَث الساعة ، وهو الغزو التركي لليبيا .


الواضح الجلي : أنه غزو استحواذي بدوافع مادية مُحَرَّم شرعاً لما فيه من قتل للنفوس ، ومجازفة بأمن المنطقة كاملة ؛ تشهد لدنيويته مسارعة تركيا نحو البترول ومعاجلتها للتوقيع على اتفاقيات الغاز ،ومسارعتها بطلب تحويل المال إليها من حكومة السراج، وهو أيضا بدعم أوروبي أقل أحواله صمت أوروبا وعدم اتخاذها أي إجراء عملي للحيلولة دون الغزو ،رغم مرور سفن تركيا الحربية في مياه الناتو  الدولية  ،فليس ثمت تفسير مقنع لإتاحتهم الفرصة لقوات تركيا  لعبور المتوسط إلا الدعم ؛ وكذلك تصريح أردوغان بأن العالم يجب أن يعلم بأن تركيا أكبر مما هي اليوم عليه بكثير ، وعدم مبالاته باحتمالية احتراب بينه وبين مصر والدول العربية من أجل هذا الغزو ، واستخدامه المرتزقة السوريين الذين من المفترض أن ميادين الصراع في بلادهم في حاجة إليهم ، ورفض معظم الشعب الليبي كما هو واضح من التقارير التي ترد من الداخل الليبي للغزو التركي ، وانقطاع صحة الاحتجاج بالتدخل الإماراتي لتوقف الإمارات عن دعم الجيش قبل التدخل التركي بفنرة ليست وجيزة ، كما أن التدخل الإماراتي لم يكن بجيوش عابرة للقارات .


كل هذه المظاهر واضحة في عدوانية التدخل ومقاصده الاستغلالية ؛ وكذلك بالنظر إلى مآلاته ، فإنه لن يكون التدخل التركي محمود العواقب قطعاً، ولا حلاً لأي مشكلة ، فالغرب سوف يستفيد من الوضع قدر  ما يريد ، ثُمَّ لن يدع تركيا تستحوذ على ليبيا ، وستُشغل دولُنا بصراعات جديدة ، وتجعل الفرصة سانحة لتدخلات أصعب ، ومشكلات أوسع ، ليست في صالح الليبيين ولا العرب ولا المسلمين.


إلا أن غالب المحللين الحركيين لا يرون هذا كله ، ويحاولون من ناحية تصويره وفق آليات القانون الدولي ، فيحتجون لتركيا بشرعية السراج لدى الأمم المتحدة ، وهي حُجَّة لا تعمل بها تركيا نفسها في مكان آخر وهو اليمن حيث لا تؤيد تركيا الحكومة الشرعية ، وتدعم الموقف الإيراني من الحوثيين على لسان أردوغان نفسه ؛ومن جهة أُخرى يُقِرؤونه كبداية جادة لمشروع توحيد بلاد المسلمين في دولة واحدة تعيد المجد العثماني ؛وهذا هو ما عنيتُه بالانطلاق من الأحلام في تفسير الواقع ؛ وهي أحلام غير جائزة شرعاً لاعتبارات عديدة أولها وأهمها استحالة تطبيقها ، وإنما الذي يُتَوَقَّع حدوثُه نشوب الحروب الكبار ، وتشتيت المنطقة وإحراقها أكبر مما هو حاصل الآن ،وإغراقها بالدماء والمجاعات والهجرات ؛ كما يمهد إلى تقسيمها ، و يحقق تخطيط الغرب لتقسيم المقسم ؛ ومنطقياً إذا كان الجيش التركي عاجزاً حالياً عن تحقيق أي هدف له فى سوريا فضلاً عن إسقاط بشار وعن طرد إيران وروسيا وأمريكا منها ، بل هو يعمل إلى جانب كل تلك الدول  هناك ، إذا كان عاجزاً عن ذلك فكيف يمكن تَخَيُّل أن بإمكانه توحيد ليبيا ومصر وتونس والجزائر وبقية الدول العربية والإسلامية ؛ بالطبع هذه هي أحلام داعش نفسها؛ لذلك لا يجوز تبنيها لعدم واقعيتها بل واستحالتها وتحقق ضررها.


وللحقيقة فإن الحكومة التركية لم تتبن هذه الأحلام وإن كانت ألمحت لها ؛ بل هي في تقديري متآمرة كما قدمنا مع إيران والصهاينة لاستنزاف المنطقة وسرقة خيراتها وتحطيم أنظمتها ، أما الأحلام فهي رُقْيَتُها السحرية التي تخادع بها جماهير المتأثرين بالتيارات الإسلامية الحركية ؛ وهي تنفثها تارة عن طريق أفلام تحكي تاريخ مثالي مزركش لقادة عثمانيين ، وتارةً عن طريق عنتريات لا حقيقة لها موجهة لدول الغرب والكيان الصهيوني حتى تستحق لباس البطولة ، تشبه عنتريات الحكام اليساريين العرب وعنتريات إيران ، وتارة عن طريق تزكيات شيوخ وكُتَّاب من الغارقين في الأحلام ذاتهم ، ولاشك أنها طريقة دعائية مُحْكَمَة نتمنى في بعض المواقف نظيرها في بلادنا ، لكن الذي نتمناه أكثر أن يكون لدى شعوبنا الوعي بحقيقتها ، لأن اليقظة من الأحلام سوف تحصل يوماً ما  ، فمن الضار جداً أن يكون حصولُ اليقظة بعد خيبة الأمل التي تعقب الحُلُم وبعد خراب مالطا .


لا يعني كل ما قلت تأييدي حفتراً أو السراج فتأييد أحدهما شأن ليبي ، لكن الذي من حقي الاعتراض عليه هو التدخل الخارجي لما فيه من سوء العاقبة التي تطال سائر الأُمَّة .


تركيا وليبيا مثال حاضر فقط ، وإلا فخيبات الحركيين الإسلاميين نتيجة تعلقهم بالأحلام تبدأ من الستينات الهجرية يوم دعمهم للثورة على الإمام يحي مرورا بدعمهم للثورة الخمينية وانتهاء باستغلالهم على يدي تركيا وقطر وإيران ، ولو فقهوا لاعتبروا ( ولكن أكثر الناس لا يعقلون)