الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (26)‏

  • 131

‏ قصة بناء الكعبة (24)‏

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

قوله -تعالى-: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ . رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (البقرة:127-131).

في هذه الأيام المباركة التي تتجه فيها أبدان عشرات الألوف من الحجاج لبيت الله الحرام، وتتجه قلوب مئات الملايين إلى هذه البقعة المكرمة -الكعبة المشرفة- تشتاق لبيت الله الحرام شوقًا إلى الله -سبحانه- وحبًّا له في الحقيقة وتعظيمًا لشعائره، تشكو إلى الله حرمانها من الحج لبيت الله الحرام والوقوف بمشاعره؛ التي جعل فيها حياة القلوب وهداية الأرواح، كما وصف الله -عز وجل- الكعبة: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ) (آل عمران:96).

تذكَّروا قصة بناء إبراهيم للكعبة مع ابنه إسماعيل -عليهما الصلاة والسلام-، ودعاءهما لبعثة النبي الأمي محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ الذي افترض الله على الإنس والجن إلى يوم القيامة اتباعه والإيمان به، ومحبته فوق الوالد والولد والناس أجمعين.

وجعل مَن كذَّبه مُكذبًا لجميع الأنبياء؛ فلا يكون مُتبعًا لمَن انتسَب إليهم -كموسى وعيسى صلى الله عليهما وسلم- إذا لم يؤمن بمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، كما قال -تعالى-: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (الأعراف:156-158).

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) (رواه مسلم).

نؤكِّد على هذه المعاني في هذه الأيام المباركة؛ التي تشهد في نفس الوقت محاولات تضييع هوية الأمة وخداع أبنائها؛ بادِّعاء مساواة الملل، وتحقيق التطبيع مع اليهود، وإقامة العلاقات الكاملة الدبلوماسية والاقتصادية؛ بل والسماح بالتجنُّس لأصحاب الأموال منهم في بلاد المسلمين وأرض الجزيرة العربية؛ بزعم السلام الذي لم يَرَ المسلمون من علاماته شيئًا في حقيقة تعامل اليهود معهم على أرض فلسطين، بل وغيرها مِن البلاد التي يشنون فيها المؤامرات لتكبيل إرادة بلاد المسلمين.

 وكذلك تقوم هذه المحاولات لإلهاء الأجيال القادمة -بل والحالية- عن حقيقة عداوة هؤلاء اليهود للأنبياء وكفرهم بهم، وعدوانهم على الأمة كلها بالاعتداء على أرض فلسطين والمسجد الأقصى، وقد أبوا الحج إلى بيت الله الحرام من قديم، وأبوا اتباع القرآن والرسول -صلى الله عليه وسلم-.

 فليحذر المسلمون جميعًا من تضييع عقيدتهم بـ(إِنَّ الدينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلَامُ) (آل عمران:19)، وبـ(وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85)، وليحذروا مِن تضييع قضيتهم في التفريط في القدس والمسجد الأقصى وأرض فلسطين كلها، وليعلموا أن ضعف الأمة اليوم وقوة أعدائها يوشك أن يتبدل، فالله يداول الأيام بين الناس، وهو مالك الملك يؤتي الملك مَن يشاء، وينزع الملك مِن مَن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، وَلْيُوقن كل مسلم أن وعد الله للأمة بالنصر قائم بشرط تحقيق العبودية والإيمان والعمل الصالح، قال الله -عز وجل-: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:55)، وقال -تعالى-: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ . إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ . وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:105-107)، وقال -عز وجل-: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ . إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ . وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) (الصافات:171-173)، وقال الله -سبحانه وتعالى-: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (المجادلة:21)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، فلا تبيعوا قضيتكم، ولا تبيعوا أمتكم، ولا تبيعوا دينكم؛ لإرضاء أعداء الله، فإن غدًا لِنَاظِره قريب، وَلَتَعْلَمُنَّ نبأه بعد حين.

وقال الله -عز وجل- عن إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- في دعائهما أثناء بناء الكعبة: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). 

قال ابن كثير -رحمه الله-: "يقول -تعالى- إخبارًا عن تمام دعوة إبراهيم لأهل الحرم أن يبعث الله فيهم رسولًا منهم -أي: من ذرية إبراهيم-، وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قَدَر الله السابق في تعيين محمدٍ -صلوات الله وسلامه عليه- رسولًا في الأميين إليهم وإلى سائر الأعجمين من الإنس والجن، كما روى الإمام أحمد عن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنِّي عِندَ اللهِ لخاتَمُ النَّبيِّينَ وإنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ في طِينتِه، وسأُنَبِّئكم بأوَّلِ ذلك: دَعْوةِ أبي إبراهيمَ، وبِشارةِ عيسى بي، ورُؤْيا أُمِّي التي رأتْ، وكذلك أُمَّهاتُ النَّبيِّينَ يَرَيْنَ".

(قلتُ: وإن كان في إسناد الحديث مقال؛ إلا أنه محمول على معنى: أن الله قَدَّر نبوَّته، وليس ابتدأ خلقه وآدم مجندل في طينته، فآدم أبو البشر والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد قُدِّر وجوده نبيًّا، أما وجوده -صلى الله عليه وسلم- فمعلوم نسبه أنه وُلِد في عام الفيل، ولم يكن موجودًا قبل ذلك إلا في القدر).

قال ابن كثير -رحمه الله-: وروى الإمام أحمد أيضًا عن أبي أمامة قال: "قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، ما كانَ أوَّلِ بدءُ أمرِكَ؟ قالَ: دعوةُ أبي إبراهيمَ، وبُشرى عيسى بي، ورأت أمِّي أنَّهُ خرج منها نورٌ أضاءت لَهُ قصورُ الشّامِ". والمراد: أن أول مَن نوَّه بذكره وشهره في الناس إبراهيم -عليه السلام-، ولم يزل ذكره في الناس مذكورًا مشهورًا سائرًا حتى أفصح باسمه خاتمُ أنبياء بني إسرائيل نسبًا، وهو عيسى ابن مريم -عليه السلام-، حيث قام في بني إسرائيل خطيبًا، وقال: (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) (الصف:6)؛ ولهذا قال في هذا الحديث: "دَعْوَةُ أبي إِبْراهيمَ، وبُشرى عيسى".

وقوله: "وَرَأَتْ أمي أَنَّه خَرجَ مِنها نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ" قيل: كان منامًا رأته حين حملت به، وقَصَّتْه على قومها فشاع فيهم واشتهر بينهم، وكان ذلك توطئة. وتخصيص الشام بظهور نوره -صلى الله عليه وسلم- إشارة إلى استقرار دينه وثبوته ببلاد الشام؛ ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلًا للإسلام وأهله، وبها ينزل عيسى ابن مريم -صلى الله عليه وسلم- إذا نزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها؛ ولهذا جاء في الصحيحين: (لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي ظاهِرِينَ على الحَقِّ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ، حتّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ وهُمْ كَذلكَ). وفي صحيح البخاري: (وَهُمْ بِالشَّامِ). 

(قلتُ: يعني آخر الزمان قبل نزول عيسى ابن مريم -صلى الله عليه وسلم-؛ وإلا فقد احتُلت الشام من التتر والصليبيين والاحتلال الغربي في زماننا، ثم الباطنية من النصيرية الملحدين).

قال ابن كثير -رحمه الله-: قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ) يعني: أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-. فقيل له: قد اسْتُجِيبَتْ لك، وهو كائن في آخر الزمان. وكذا قال السدي وقتادة" (انتهى من تفسير ابن كثير -رحمه الله-).  

وللحديث بقية -إن شاء الله-.