تعطيل وتحريف أم تأويل باللازم والتضمين؟

  • 99

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛   

فعند تدبرنا لقوله -تعالى-: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ ‌قَرِيبٌ ‌مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف:56).

يتبادر سؤال: لماذا قال ربنا: (إنّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ) ولم يقل: قريبة؟

قال الزركشي -الأشعري-: "ولم يقل قريبة، قال الجوهري: ذُكرت على معنى الإحسان ... " (البرهان، ٣/ ٤٢٠)، ولم يعقِّب الزركشي عليه، وفي هذا رضا منه بما ظنه تأويلًا للرحمة بالإحسان، وَفْقًا لمذهبه الأشعري في تأويل الصفات.

ونص كلام الجوهري في الصحاح: ؟ولم يقل: قريبة؛ لأنه أراد بالرحمة الإحسان" (الصحاح، ١/ ١٩٨).

وتوجيه كلام الجوهري يحتمل أمرين:

الأول: أن الرحمة مجاز عن الإحسان، وهذا تأويل باطل، فيه تعطيل صفة الرحمة الثابتة ونفيها عن الله -عز وجل-، ومثل هذا التأويل بعيد عن مراد الجوهري؛ لأنه -رحمه الله- على مذهب السلف، ولا يُعرف عنه التأويل الكلامي المذموم.

الثاني: أنه يقصد التضمين، أو التفسير باللازم؛ وعليه فهو لا ينفي صفة الرحمة ولا يعطلها، بل ذكرها بما تتضمنه وتستلزمه.

ومعنى التفسير باللازم: العدول عن المعنى اللفظي المباشر إلى لفظٍ هو لازم من لوازمه.

وتظهر أهميته في إفادة معنى لغوى جديد لا يكون ظاهرًا مِن وجوه اللغة، وكثيرًا ما يذكر اللغويون ضمن مواد الكلِم معانيَ هي من تفاسير السلف، كما هو ظاهر من صنيع الأزهري في تهذيب اللغة، والجوهري في الصحاح.

ومثل هذا التأويل باللازم أو التفسير بما تتضمنه الصفة مشهور عند السلف -رحمهم الله-، وهو أحد طرقهم في التفسير، كما في تأويل الساق بالشدة عند ابن عباس -رضي الله عنهما-.

ومثل هذا التأويل اشتبه على كثيرٍ؛ خاصة أهل البدع من المتكلمين حتى ظنوا -جهلًا- أنه صرف للفظ عن حقيقته، فزعموا أن بعض السلف أخذ بنحو تأويلهم وسلك مسلكهم في التعامل مع الصفات الإلهية، ثم راح بعضهم يستدل على أتباع المنهج السلفي بمثل تلك التأويلات، وهو يجهل أنها تأويلات بالتضمين واللازم، وأنها لا تنفي المعنى الحقيقي للصفة، وأن مثل هذا جائز؛ إذ ليس فيه تعطيل لمعنى الصفة أو تحريف له؛ ولذا يجب حمل هذه التأويلات على ذلك عند مَن لم يُعرَف عنه نهج التأويلات الفاسدة التي عند المتكلمين.

وليُعلَم أن أهل السنة والجماعة يقررون أن لأسماء الله -تعالى- وصفاته دلالاتٍ تدلُّ عليها، وأنها ثلاث: المطابقة، والتضمُّن، والالتزام (ينظر: فائدة جليلة في قواعد الأسماء الحسنى لابن القيم، ص 25).

وأهل السنة والجماعة يثبتون صفة الرحمة لله -تعالى- باعتباراتها الثلاثة:

الأول: أنها صفة حقيقية ثابتة لله -تعالى-.

والثاني: أنها قائمة بذاته -تعالى-.

والثالث: أنها تقتضي التفضُّل على عباده والإنعام عليهم، وهذا الأخير باعتبار آثارها وقيامها بغيره -سبحانه-.

ورحمته -سبحانه- ليست كرحمة المخلوقين؛ وعليه فلا حاجة لدعوى المجاز التي يدَّعيها أهل التحريف من متأخري الأشعرية وتابعيهم في رحمته -تعالى-؛ فإنه -سبحانه-: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى:11)، وهذا الثاني: أعني أن المراد بتأويل الرحمة بالإحسان هو مِن باب تفسيرها وتأويلها بما تتضمنه عند الجوهري وهو التوجيه الأقرب؛ خاصة أن الجوهري -كما ذكرتُ- لا يُعرف عنه التأويل، وهذا التأويل بالتضمين أسلوب عربي مشهور ، وقد قال به بعض المفسرين من أهل السنة: كابن جرير، وابن كثير، وذكره ابن القيم واستشهد له.

ومن هنا نَرُدُّ على مَن يزعم أن ابن عباس -رضي الله عنهما- أَوَّل في الصفات، وكذلك الطبري، وابن كثير ... ونقول: إنهم لم يصرفوا الصفة عن معناها الحقيقي، وإنما فسروها بما تتضمنه وتستلزمه، فهذا تأويل بالتضمين واللازم، وليس كما تزعمون، أما تأويل المتكلمين فهو في الحقيقة تحريف، يتم فيه تعطيل المعنى وصرفه عن حقيقته بقرينة التشبيه والمماثلة المتوهمة في عقول مَن أصابتهم أوهام الفلسفة الإغريقية ولوثتها.

ومجيء لفظ (قريب) بالتذكير بدلًا من لفظ (قريبة) بالتأنيث في قوله -تعالى-: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ ‌قَرِيبٌ ‌مِنَ الْمُحْسِنِينَ) له توجيه بلاغي بديع آسر ومؤثر، ذكره ابن القيم واختاره مِن اثني عشر توجيهًا، وقال فيه: (وهو أليق ما قيل فيها) وهو: "أن الرحمة صفة من صفات الرب -تبارك وتعالى- والصفة قائمة بالموصوف لا تفارقه؛ لأن الصفة لا تفارق موصوفها، فإذا كانت قريبة من المحسنين، فالموصوف -تبارك وتعالى- أولى بالقرب منه، بل قرب رحمته تبع لقربه -تبارك وتعالى- من المحسنين ... وذلك يستلزم القربين قربه -تعالى- وقرب رحمته ... فكان في بيان قربه -سبحانه- من المحسنين من التحريض على الإحسان واستدعائه من النفوس وترغيبها فيه غاية حفظ لها، وأشرفه، وأجله على الإطلاق، وهو أفضل إعطاء أعطية العبد، وهو قربه -تبارك وتعالى- من عبده، الذي هو غاية الأماني، ونهاية الآمال، وقرة العيون، وحياة القلوب، وسعادة العبد كلها) (بدائع الفوائد، ٣/ ٢٦).

وللدكتور مختار عطية توجيه بديع حدثني به، حيث يقول: "ولأن الرحمة صفته -تعالى- وفعله، أراد الله -سبحانه- أن يُقرّ الفعل في نفوس عباده، وهو مذكر فعبر عنه بصيغته".

وهناك توجيهات نحوية كقولهم: إن المضاف يكتسب التذكير والتأنيث من المضاف إليه إذا صح حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، والآية الكريمة مثال على ذلك ... فكأن المعنى "إن الله قريب من المحسنين"، وفي هذا دلالة على أن الله قريب ورحمته كذلك من المحسنين، والحديث ذو شجون ويطول، لكن حسبي ما ذكرتُ، وقد بيَّنتُ ما إليه قصدتُ من الفائدة العقدية والأخرى الدلالية.

والحمد لله رب العالمين.