وقفات مع سورة الكهف (11)

  • 140

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فلما كان الحديث عن تذكير الناس بأن الحق هو من الله تعالى لا غيره، وتم إخبارهم بأن لهم الاختيار إما الإيمان أو الكفر على سبيل التهديد، وأنه ينبغي لمن اختار الكفر أن يتحمَّل عاقبته، وهو ما تحدثنا عنه في الحلقة الماضية، كذلك لمَن آمن جزاءً عظيمًا، وهو محور حديثنا، قال تعالى: (‌إِنَّ ‌الَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌وَعَمِلُوا ‌الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ ‌أَجْرَ ‌مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) (الكهف: 30).

ولما كان الإيمان هو الإذعان للأوامر عطف عليه ما يحقق ذلك، فقال: (وَعَمِلُوا)، والإيمان في معتقد أهل السنة والجماعة قول وعمل؛ قول باللسان، وعمل بالجوارح والأركان، وأعلمهم تعالى أنه لا يضيع ذلك فقال: (إِنَّا لَا نُضِيعُ ‌أَجْرَ ‌مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا)، أي: لا نترك أعماله تذهب ضياعًا، بل نجازيه عليه بالثواب، وكذلك قال تعالى للمؤمنين عند تحويل القبلة: (‌وَمَا ‌كَانَ ‌اللَّهُ ‌لِيُضِيعَ ‌إِيمَانَكُمْ) (البقرة: 143)، ثم شرع تعالى في ذكر الثواب فقال: (أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) (الكهف: 31).

قال ابن عاشور رحمه الله: "( لَهُمْ): اللام لام الملك" (انتهى).

وعدن تعني الإقامة، فيُقال: عدن فلان بالمكان إذا أقام به، وسُمِّيت عدنًا لإقامة المؤمنين وخلودهم فيها.

وقيل: أي: إقامة لا رحيل بعدها ولا تحول. ومكانها: قيل: إنها سرة الجنة، أي: وسطها، وسائر الجنان محدقة بها. وذُكِرَت بلفظ الجمع؛ لسعتها؛ لأن كلَّ بقعة منها تصلح أن تكون جنة.

ثم انتقل تعالى لوصفها فقال جل وعلا: (تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ)، قال ابن كثير رحمه الله: "أي: مِن تحت غرفهم ومنازلهم"، وكذلك قال البقاعي رحمه الله. وقال الطبري رحمه الله: "تجري من دونهم ومن أيديهم الأنهار" (انتهى). والأنهار: جمع نهر، وهي أربعة ذكرها تعالى في سورة محمد، فقال جل وعلا: (مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى) (محمد:15).

ثم انتقل تعالى للحديث عن حليهم، فقال تعالى: (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ)، والتحلية تكون للرجال والنساء، ومعناها: التزيين، والحلية: الزينة.

قال ابن عاشور رحمه الله: "وأسند الفعل للمجهول (يُحَلَّوْن)؛ لأنهم يجدون أنفسهم محلين من الله تعالى" (انتهى).

ولما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور في اليد والتيجان على الرؤوس جعل الله ذلك لأهل الجنة.

قال سعيد بن جبير رحمه الله: "يحلى كل واحد منهم بثلاث من الأساور، واحد من فضة، وواحد من ذهب، وواحد من لؤلؤ ويواقيت" (انتهى).

ثم انتقل الحديث عن لباسهم، فقال تعالى: (وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ)؛ ولماذا خضرًا؟ قال العثيمين رحمه لله: "واللون الأخضر أشد ما يكون راحة للعين؛ ففيه جمال، وفيه راحة للعين" (انتهى).

والسندس رقيق الديباج والاستبرق ثخينه، وهو من الحرير، ثم ذكر تعالى جلستهم: "مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ"، والاتكاء جلسة الراحة والترف، والأرائك: جمع أريكة، وهي: اسم لمجموع سرير وحجلة، والحجلة هي قبة مِن ثياب تكون في البيت تجلس فيها المرأة أو تنام فيها.

وقال السعدي رحمه الله: "هي السرر المزينة المجملة بالثياب الفاخرة، فإنها لا تسمى أريكة حتى تكون كذلك" (انتهى).

وقال الشوكاني رحمه الله: "هي أسرة من ذهب مكللة بالدر والياقوت" (انتهى).

هذا جزء من نعيم أهل الجنة، قال فيه تعالى: (نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا) أي: مجلسًا؛ فكيف بباقي نعيم الجنة؟! نسأل الله من فضلة.

وتأمل هنا ختامه بهذه الآية في الحديث عن أهل الجنة: (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا)، ولما تحدَّث عن أهل النار، قال: (وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا).

وإلى اللقاء في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى.