محطات تطهير!

  • 63

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فإن البشر يقعون في الخطأ، ومن فضل الله عليهم: أنه جعل لهم مواسم يتزودون فيها من الطاعات، ويقلعون عن السيئات؛ فيمتن الله عليهم بمغفرة الزلات، وتكفير الخطيئات، فإن هم صدقوا في التوبة، فإن الله يبدل السيئات حسنات، وهذه المواسم منها ما هو يومي، ومنها ما هو أسبوعي، ومنها ما هو سنوي؛ فاليومي: "الصلوات الخمس"، والأسبوعي: "يوم الجمعة"، والسنوي: "شهر رمضان"؛ فلا إله إلا الله، ما أكرم الله، وما أعظم فضله على عباده!

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ) (رواه مسلم)

(مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ) أي: سبب في مغفرة الذنوب الحاصلة بينها، والمقصود بالذنوب: الصغائر، كما يدل عليه بقية الحديث.

(إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ) أي: إذا اجتنب فاعلها الكبائر، (اجْتَنَبَ) فعل ماض مبني للمعلوم، وفي بعض الروايات (اجْتُنِبَتْ) على البناء للمجهول. 

والتكفير المقصود في الحديث يكون للذنوب كلها إلا الكبائر، فتكون (إِذَا) في الحديث بمعنى الاستثناء؛ رجَّح ذلك النووي في شرح مسلم. 

فهذا حديث عظيم، فيه بيان فضل هذه العبادات الثلاث العظيمة؛ لِما لها عند اللهِ من المنزلةِ العالية، وثمراتها لا تعدّ ولا تحصى، ومن ذلك أنها مكفرة لما بينها من صغائرِ الذنوب.

وهي من أعظم ما يدخل في قوله -تعالى-: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ) (هود: 114)، كما أن الله جعل من لطفه تجنب الكبائر، سببًا لتكفير الصغائر، قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا) (النساء: 31)، أما الكبائر فلا بد لها من توبة. 

الكفارة الأولى: الصلوات الخمس:

قوله: (الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ) أي: المعروفة التي فَرَضَها الله على عباده في كل يوم وليلة، وهي: الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر.

وعن عثمانَ بنِ عفان -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما مِن امرئ مُسْلِمٍ تحضُرُهُ صلاةٌ مَكتُوبةٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا، وَخُشوعَهَا، وَرُكُوعَها، إِلاَّ كَانَتْ كَفَّارةً لِمَا قَبْلَهَا مِنْ الذنُوبِ مَا لَمْ تُؤْتَ كَبِيرةٌ، وَذلكَ الدَّهْرَ كلَّهُ) (رواه مسلم).

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (‌أَرَأَيْتُمْ ‌لَوْ ‌أَنَّ ‌نَهْرًا ‌بِبَابِ ‌أَحَدِكُمْ ‌يَغْتَسِلُ ‌فِيهِ ‌كُلَّ ‌يَوْمٍ ‌خَمْسًا هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟) قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ، قَالَ: (فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا).

فهذان الحديثان الصحيحان دليلان على فضل الصلوات وما فيها من الخير العظيم، وأنها من أسباب تكفير الذنوب وحط الخطايا، والصلاة هي عمود الإسلام؛ مَن حفظها حفظ دينه، ومَن ضيعها ضيع دينه، ومن استقام عليها فهو الناجي السعيد، ومن أضاعها فهو الهالك؛ ولهذا أثنى الله على أهلها كثيرًا في كتابه العظيم، ووعدهم الخير الكثير.

هذه الصلوات الخمس إذا حافظ عليها المسلم والمسلمة في وقتها مع مراعاة شروطها وأركانها وواجباتها ومستحباتها، وكان الرجل محافظًا عليها في المسجد مع جماعة المسلمين حيث ينادى بها، فإن الله يمتن  ويتفضل عليه بمغفرة كل ذنب ارتكبه ما بين الصلاة الأولى إلى التي تليها.

الكفارة الثانية: صلاة الجمعة:

قوله: (وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ) أي: أن من حافظ على صلاة الجمعة، وأداها كما شرع الله، مطبقاً لكل سنة نبوية جاءت في حق من يحضر الجمعة، ومجتنبًا لكل أمر نهت عنه السنة في حق من يجب عليه حضور الجمعة فإن الله من كرمه كذلك أنه يغفر لهذا العبد كل صغيرة من صغائر الذنوب فعلها خلال الأسبوع؛ كما جاء في الحديث السابق،

 وقد جاءت أحاديث أخرى بتأكيد ذلك، فقد روى مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه: عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم (من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت؛ غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام، ومن مسّ الحصا فقد لغا).

وعن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من اغتسل يوم الجمعة، ومسَّ من طيب إن كان عنده، ولبس من أحسن ثيابه، ثم خرج حتى يأتي المسجد فيركع ما بدا له، ولم يؤذ أحداً، ثم أنصت حتى يصلي؛ كان كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى) 

الكفارة الثالثة: صيام رمضان:

قوله: (وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ): أي أن الله امتن على عباده بأن جعل لهم شهر رمضان موسمًا سنويًّا يتزودون فيه من الطاعات، ويغترفون فيه من الحسنات، ويتوبون فيه من الخطيئات، فيغفر الله لهم ما اقترفوه خلال السنة من صغائر الخطيئات، فمن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، وقام بفعل ما أوجب الله عليه فيه وترك ما نهى الله عنه، ومع ذلك قام بفعل المندوبات والمستحبات وأكثر من نوافل العبادات، وترك المكروهات، فإن الله يغفر له ما تقدم من ذنبه من صغائر الذنوب والسيئات، والله ذو الفضل العظيم.

وقد جاءت بتأكيد ذلك أحاديث كثيرة، فمِن ذلك: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ. وَمَنْ قَامَ ‌لَيْلَةَ ‌الْقَدْرِ ‌إِيمَانًا ‌وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) (متفق عليه)

بعض فوائد الحديث:

1- فضل الصلوات الخمس، وأنها مكفِّرة للصغائر، وأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر.

2- فضل الجمعة، وأنها من أفضل أيام الله، وفيها ساعة لا يوفق عبد مسلم للدعاء فيها إلا استجاب الله له.

3- فضل شهر رمضان، وأن الله يكفر به ما صغر من الذنوب.

4- هذا الحديث يدل صراحة على أن الذنوب تنقسم إلى قسمين: صغائر وكبائر، وأن المراد بتكفير هذه الأعمال هو للصغائر فقط، وأما الكبائر فلا بد لها من توبة خاصة.

والله المستعان، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.