تعالَ لنا وحدك! (1)

  • 87

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فنحن نولد في هذه الدنيا ونحن محاطون بدوائر من الحماية والرعاية؛ فإننا نولد لأبوين رحيمين حنونين يقدِّمان مصالحنا على مصالحهما، يريدان أن يرينا أفضل البشر، يحرصان على أن نكون صالحين نسير على أمثل الأخلاق، طائعين لله؛ حتى لو كان أحدهما تنكَّب الطريق؛ فإنه يحرص على ألا يقع أبناؤه في تلك الزلات التي وقع فيها.

ثم تنمو الأسرة ويكون فيها بنون وبنات ووالدان، ثم عائلة كبيرة، أجداد وأحفاد، وعمات وخالات، والأسرة والعائلة كذلك تمارس دورًا من الرعاية والحرص على بعضها البعض؛ فقد صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إِنَّ ‌الْخَالَةَ ‌وَالِدَةٌ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وتنتقل ولاية المرأة بين عصبتها حسب القرب منها، فالأسرة والعائلة تحيط أفرادها بأسوار من الحماية والرعاية من الحفاظ على الدِّين والأخلاق والقيم، ونادرًا ما تجد أسرة تقبل أن يرتكب أبناؤها المنكرات في تجمعاتها، ومن أراد الانحراف فغالبًا ينحرف بعيدًا عن نطاق الأسرة.

ثم نحاط بالمجتمع الذي نحيا فيه، ويشكِّل المجتمع خط دفاع آخر عن الفرد؛ فالمجتمع يتشكل بناءً على موروث من القِيَم والدِّين والأخلاق، ويتطبع أفراد المجتمع بما يسود فيه من الأخلاق والقيم، ويعمل المجتمع على بقاء تقاليده والتي تشكل نقاط التماسك داخله، وأي مجتمع يغفل عن هذه القيم، فطريقه هو الذوبان وسط الغزو التتري للأفكار التي لا تنقطع ولا تتوقف موجاتها؛ فما مِن حضارة منتصرة إلا تريد نشر ثقافتها، وأنماط حياتها، والمغلوب مولع بتقليد الغالب كما ذكر ابن خلدون.

ثم نحاط أيضًا: بشريعة تم نقلها لنا بسندٍ متصلٍ كسلاسل الذهب، يستقي منه المجتمع أفكاره وهو مرجعية المجتمع فيما يتعلَّق بالدين والأخلاق، والقيم والتشريع، وهو الحادي لهذا المجتمع، وهو النبع الصافي الذي يأخذ منه المجتمع تقاليده وأخلاقه.

ويستند مجتمعنا على ثوابت من القرآن والسنة والإجماع والقياس الجلي، حافظت على مجتمعنا عبر مئات السنين قاومت هجمات التتر وحملات الصليبيين، وفترات الاحتلال فخرج مجتمعنا رغم جراحه متصلًا بجذوره وثوابته، ينتظر من أبنائه أن ينطلقوا منها ليعود فتيًّا كما كان.

ثم نحاط برموز وعلماء كانوا هم التطبيق العملي لهذا التراث ففهموه أفضل الفهم، وفسروه أبين التفسير، وكانوا هم قنطرة بين هذا التراث العظيم وبين المجتمع والأفراد؛ إذًا فأنتَ محاط بأسوار من الحماية والرعاية، محاط بأسرتك وعائلتك، ومجتمعك، وتراثك ورموزك؛ كل هؤلاء هدفهم الأول هو حمايتك من غريب الأفكار، ومن مزالق الطرق.

لذلك مَن أراد أن يخرب مجتمعًا ما؛ عليه أولًا: أن يدمر كل تلك الأسوار حتى يصل للفرد وحيدًا فريدًا، ضعيفًا بعيدًا عن كل رعاية ونصح؛ ولذلك فإن شعار المرحلة التي نحياها اليوم هو: "تعالَ لنا وحدك!".

 

تعالَ لنا وحدك، إناءً فارغًا حتى نملأك نحن بما نريد.

تعالَ لنا وحدك، متجرِّدًا من سلاحك ومن دروعك، مستسلمًا لنا ولثقافتنا، ولمظاهر حضارتنا، وسوف نجعلك تقتات على فتات بقايا موائدنا.

تعالَ لنا وحدك لعلك ستسمعها كثيرًا في الآونة القريبة تتردد على أذنيك حيثما يممت وجهك.

وستشعر بهم يتجاذبون ثيابك؛ كل منهم يريد أن ينفرد بك ليلقي لك أفكاره.

تعالَ لنا وحدك: ستسمعها تأتيك من قِبَل منصات الميديا العالمية، فنتفلكس، وأبل تي في، وديزني، وغيرها تقول لك: تعالَ لنا وحدك، أنت وهاتفك المحمول فقط؛ لنكرر أمام عينيك مشاهد الشذوذ آلاف المرات، بل سنجعل الشواذ يتصدرون بطولات الأفلام والمسلسلات، وسنظهرهم في صورة مبهرة يتحلون بالنبل والمروءة، فقد ولت مرحلة المطالبة بحقوق الشواذ واليوم سنجعلهم قدوات للمجتمع.

تعالَ لنا وحدك: ستسمعها تأتيك من ألعاب الجيمز؛ تعالَ لنا وحدك أنت وهاتفك، أو أنت وحاسوبك، وسوف نجعل أبطال ألعابنا كذلك من الشواذ، ولأنك تحب ألعابنا المبهرة سنجعلك أيضًا تنبهر بأبطالها الشواذ حتى تتصالح تمامًا مع رؤية تصرفاتهم، وحتى يصيروا لك مَثَلًا وقدوة.

وهذه المحاولات المستميتة لتمرير أصحاب هذا الفعل المنكر الذي أسماه القرآن العظيم فاحشة، والذي توعَّد الرسول فاعله بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، هذه المحاولات المستميتة هدفها أيضًا "أن تظل وحدك"؛ فهذه الفاحشة تقول لك: سنوفر لك طريقًا للتنفيث عن الشهوة، ولكن دون أن تشكل أسرة مستقرة ترعاها وترعاك، تحميها وتحميك، بل لا يترتب على هذه الفاحشة أي خير، بل مزيد من التفرد والبُعد والانعزال، والأمراض النفسية والجسدية.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.