استعينوا بالله واصبروا (2)

  • 50

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فلا زال حديثنا موصولًا عن الأسباب التي تعين على تنزل الرحمات، ونيل الفضل والرضوان، وقبول المغفرة، ورفع البلاء ودخول الجنة والنجاة من النيران؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِرَحْمَةٍ، سَدِّدُوا، وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا، وَرُوحُوا، ‌وَشَيْءٌ ‌مِنَ ‌الدُّلْجَةِ، وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا) (رواه البخاري).

وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى ‌أَدْوَمُهَا ‌وَإِنْ قَلَّ) (رواه مسلم).

والله شكور يَشكر على قليل الطاعة وكثيرها، إن تقبلها الله -عز وجل-؛ فيثيب صاحبها عليها مذاق حلاوة الإيمان وتيسيره لطاعات جديدة، ويقوي عود استقامته، ويشرح صدره للإيمان، ويثبته على قول الحق ويلهمه الرشد في أمره، ويجمعه على أهل الإيمان ويزيده وصلًا للصفوف ورحمة للمؤمنين، ويشغله بما ينفعه ويفيده، ويحميه من وراء ظهره، ويطهر قلبه من الغل والحق، ويبارك الله في منهجه وسيره لعمله، كما في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلَاثٌ ‌لَا ‌يُغِلُّ ‌عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَالنَّصِيحَةُ لِوُلَاةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ، تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ) (رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني)

وقد بيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- العلاج النافع القوي لمرض الغل؛ فذكر أن الغل لا يجتمع وتلك الثلاث في قلب المؤمن -وهي: النصح والإخلاص ولزوم الجماعة-؛ فتفطن لهذا المعني لتعلم السبب وراء الحرب الضروس على الدعوة، وذلك بسبب الفردية وطغيان الشخصية، والبعد عن العمل الجماعي، وكذلك العصبية المقيتة التي تمنع وتصرف عن النصح للغير بإخلاص وتجرد.

وقد قال الله -تعالى-: (وَلَا تُطِعْ ‌مَنْ ‌أَغْفَلْنَا ‌قَلْبَهُ ‌عَنْ ‌ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف: 28)، ويظهر ذلك جليًّا: فإن أمر كل مَن يتبع هواه يكون عليه فرطًا مشتتًا، وقال -تعالى-: (‌وَلَا ‌تُطِعْ ‌مِنْهُمْ ‌آثِمًا ‌أَوْ ‌كَفُورًا) (الإنسان: 24)

والظالمون عندما يدعوهم أهل المنهج الحق؛ فإنهم يدعونهم إلى المنهج الرباني بعد الحصانة الإيمانية (‌وَقُلِ ‌الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) (الكهف: 29)، ويذكرونهم بسجن النار وحبسهم فيها، وأنهم لا يخرجون منها أبدًا (نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا)؛ فقد قالوا ما شاءوا واتهموا دون قيد، فكان الجزاء السلاسل والأغلال، والأسر والسجن، وإن استغاثوا فالمهل الذي يشوى الوجوه التي أرادت وجاهة الدنيا والاستعلاء، فالجزاء من جنس العمل.

وفي النهاية من القلب إلى القلب رسالة:

تفكر في قوله -تعالى-: (‌وَبَدَا ‌لَهُمْ ‌مِنَ ‌اللَّهِ ‌مَا ‌لَمْ ‌يَكُونُوا ‌يَحْتَسِبُونَ) (الزمر: 47)، وتأمل قول الله -تعالى-: (‌أَفَمَنْ ‌زُيِّنَ ‌لَهُ ‌سُوءُ ‌عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) (فاطر: 8)

وكذلك قوله -تعالى-: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ ‌بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (الكهف: 103-104).

وكان السلف ترتجف قلوبهم من كلام ربهم؛ فانظر إلى رصيدك وبضاعتك، فالكل قادم على مَن يعلم السر وأخفى، وليكن لك خبيئة إيمان في الغداة والعشي، وكذلك والناس نيام؛ لذلك يجب على المؤمن حال الفتن والشدائد أن يجتهد في أعمال العبادات القلبية والبدنية، ويراجع ويحاسب نفسه دائمًا، وكما نتوكل لكسب لقمة العيش ورعاية أولادنا، فعلينا أن نتوكل على الله في أن يهدينا ويصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يعيننا على أن نكون رحمة للمسلمين، وعونًا للمحتاجين، متصفين دائمًا بالخُلُق الحسن والقلب السليم.

والله من وراء القصد.