اثبت... فإنك على الحق المُبِين (1)

  • 51

 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فعلى صخرات الوحي تتحطم الشبهات، وبنور كلمات الأجيال الأول تنقشع الظلمات.

وإنما كانت كلمات الأوائل كذلك؛ لأنها نابعة من منبع الهُدَى ومصدر النور "الكتاب والسنة"؛ قد تعرض الشبهة، وقد تروج البدعة، وقد يكثر الزبد، لكن ما إن تأتي أنوار الحق إلا وتتفتح البصائر؛ فتدرك ضعف الشبهة، وزيف الباطل، فيتهافت الخصوم.

آية من كتاب الله ثم تقرأ كلمات السلف في تفسيرها، وحديث صحيح مع حُسْن فهم، وأثر ثابت عن خير القرون، يكفيك في حسم أمرك، وتثبيت قلبك على الحقِّ المبين.

فتوافق الوحي الصريح وفطرة الـرحمن والمعقول في إيـماني

فهم إن تزيدوا بقولهم: (كيف تخالف الرازي، والإيجي، والسنوسي... وغيرهم؟!)، فما أن تقرأ كلمات السلف من أمثال: ابن المبارك، وسفيان، والأوزاعي، وأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، والبخاري، ونحوهم في عددٍ هائلٍ من أعلام السلف، ومَن تبعهم مِن الخَلَف؛ إلا وتثبت كالجبال الرواسي متيقنًا أنك على الحقِّ الأبلج.

وفوق ذلك: قراءة كلمات الصحابة والتابعين؛ فإنهم كانوا أقرب ما يكون إلى منبع الهُدىَ ومصدر النور، ثم فوق كل ذلك موافقتك  الكتاب والسنة موافقة تامة، مستسلمًا للوحي؛ فإنه الحق المبين، فلا يكن في صدرك حرج منه، بل عض عليه بالنواجذ، واستمسك بالوحي؛ تكن على الصراط المستقيم، فينشرح صدرك، وتهنأ بنعيم العيش في ظلال التسليم الكامل للكتاب والسنة، والاهتداء بهما دون تحريف أو تزييف.

فإذا كان ذلك كذلك؛ فكيف تخاف مِن تلبيس القوم بحكاية قول فلان أو علان؟!

وما وزن فلان أو علان أمام مَن ذكرنا؟!

فما إن يكاثروك بقائمة من علماء الخَلَف مِن المنسوبين إلى الأشعرية والصوفية -وبعضهم ينسبونه كذبًا وزورًا وبهتانًا-؛ إلا وتلوح أمامك قائمة أعلام السلف، وأَنَّى يقوم الهر للأسد؟!

وتسمعهم يقولون: الخلف أعلم.

فتقول في نفسك: أعلم مِن مَن؟!

أعلم مِن أبي بكر؟! أم من عمر؟! أم من عثمان، وعلي، والعشرة، وأهل بدر، وأصحاب بيعة الرضوان، مِن المهاجرين والأنصار ثم التابعين وتابعيهم؟!

أين العقول؟! بل وأين القلوب؟!

فمثلًا: لو شككوك في علوِّ الله على عرشه! 

فما عليك إلا أن تسمع كلمة الأوزاعي حاكيًا اتفاق السلف بقوله: "كنا نحن والتابعون متوافرون، نقول: إن الله -تعالى- فوق عرشه، نؤمن بما وردت به السنة من صفاته"، فيحكي الأوزاعي مدى شهرة القول بأن الله فوق عرشه في زمن التابعين وتابعيهم دون نكير، بل هو قولهم أجمعين. 

ثم قول إسحاق بن راهويه -رحمه الله-: "إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى، ويعلم كل شيء في أسفل الأرض السابعة".

وقول أبو حاتم  الرازي وأبو زرعة: "أدركنا العلماء في جميع الأمصار: حجازًا، وعراقًا، وشامًا، ويمنًا، فكان مذهبهم: أن الله -عز وجل- على عرشه بائن من خلقه".

بل وقول البخاري في كتابه: "خلق أفعال العباد": "باب ذكر أهل العلم للمعطلة، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ: الجهمية أشر قولًا من اليهود والنصارى؛ قد اجتمعت اليهود والنصارى، وأهل الأديان: أن الله -تبارك وتعالى- على العرش، وقالوا هم: ليس على العرش شيء!".

وقول الدارمي: "الأمة كلها والأمم السالفة قبلها لم يكونوا يشكون في معرفة الله -تعالى- أنه فوق السماء، بائن من خلقه غير هذه العصابة الزائغة عن الحق المخالفة للكتاب، وأثارات العلم كلها؛ حتى لقد عَرَف ذلك كثيرٌ من كفار الأمم وفراعنتهم".

وقوله في الرد على الجهمية: "ثم إجماعٌ من الأولين والآخرين، العالمين منهم والجاهلين؛ أن كل واحد ممَّن مضى، وممَّن غبر، إذا استغاث بالله -تعالى- أو دعاه أو سأله؛ يَمُدُّ يديه وبصره إلى السماء، يدعوه منها، ولم يكونوا يدعوه من أسفل منهم من تحت الأرض، ولا مِن أَمَامِهم ولا من خلفهم، ولا عن أيمانهم، ولا عن شمائلهم؛ إلا من فوق السماء؛ لمعرفتهم بالله أنه فوقهم، حتى اجتمعت الكلمة من المصلين في سجودهم: سبحان ربي الأعلى، لا ترى أحدًا يقول ربي الأسفل!".

وقول إمام الأئمة ابن خزيمة: "باب ذكر البيان أن الله -عز وجل- في السماء كما أخبرنا في محكم تنزيله، وعلى لسان نبيه -عليه السلام-، وكما هو مفهوم في فطرة المسلمين؛ علمائهم وجهالهم، أحرارهم ومماليكهم، ذكرانهم وإناثهم، بالغيهم وأطفالهم، كل مَن دعا الله -جل وعلا-: فإنما يرفع رأسه إلى السماء".

وغير ذلك الكثير من نقل إجماعات السلف في المسألة؛ فضلاً عن مئات العبارات عنهم بهذا المعنى تطالعها، وقد جمعها لك عددٌ من العلماء، منهم: الذهبي في كتابه "العلو"، وغيره؛ فضلًا عما في المسألة من الأدلة القطعية من الكتاب والسنة.

فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون؟!

وللحديث بقية -إن شاء الله-.