أسباب سقوط القدس في يد الصليبيين ومقومات التحرير

  • 151

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فالمتأمل لتاريخ أمتنا في هزائمها وانتصارها، واستضعافها وتمكينها، يرى أنه ولا بد من البحث عن الأسباب التي أدَّت إلى الهزيمة وتسلط الأعداء، والأسباب التي أدَّت إلى النصر -بفضل الله وتوفيقه-، لنستفيد منها في واقعنا المعاصر الذي هو في الكرب أشد من أيام تسلُّط الصليبيين على القدس يوم أن سقطت في أيديهم في شهر شعبان سنة 492 هـ - الموافق 15 يوليو 1099م؛ لأن المسلمين في ذلك الوقت كانت لهم دولة الخلافة رغم ضعفها، وما زال يبحث سلاطينها عن مسائل استرداد ما أخذه الصليبيون وغيرهم، من بلاد المسلمين.

وللأسف في زماننا لم تعد للمسلمين دولة واحدة تجمع شملهم، وتتبنى قضاياهم في كل مكان، وتنصر أقلياتهم، مع أن سقوط القدس في يد اليهود ودخولهم المسجد الأقصى سنة 1967، كان أقل في المذابح مما فعله الصليبيون عند دخول القدس، وقد قَتَلوا كلَّ مَن بها مِن الرجال والنساء والأطفال، ودنسوا المسجد الأقصى ورفعوا صليبًا كبيرًا على قبة الصخرة، وجعلوا المسجد مكانًا للخنازير وإسطبلًا للخيول، وتم ملؤه بالنجاسات وجعلوه مزبلة، وليس فقط منع الصلاة والأذان فيه!

ولم يكن يخطر ببالهم قضية إحياء روح الجهاد لدى المسلمين التي بالفعل كانت مِن أعظم أسباب جهادهم لاستعادة المسجد الأقصى بعد ذلك، على يد نور الدين، وصلاح الدين الأيوبي -رحمهما الله-، واليهود رغم حرصهم الشديد على عدم إظهار هويتهم الدينية وأغراضهم الصهيونية التوراتية المزعومة في احتلالهم القدس وقت احتلالهم لها؛ إلا أن ظهور هذه الأمور بالتدريج لا يزال يوقد محفزات في المسلمين لاستعادة القدس والمسجد الأقصى، نسأل الله أن يرده إلى المسلمين قريبًا.

إن من أسباب سقوط القدس في يد الصليبيين، والتي كانت معالجتها أعظم أسباب انتصار المسلمين في حطين، وعودة القدس والمسجد الأقصى:

أولًا: ظهور البدع:

ظهور البدع الغالية في المسلمين وقيام دولة، بل دول لها في بلاد المسلمين، تمثِّل ذلك في وجود الدولة الباطنية المسمَّاة بالفاطمية زورًا وبهتانًا، وهي في الحقيقة عقيدة كفرية وغالية تنافي نصوص القرآن والسنة، وإن تظاهرت بالتشيع؛ إلا أن الحقيقة هي الكفر المحض، وتكذيب القرآن والرسول -صلى الله عليه وسلم-، وقد كان تعاون ملوكها ووزرائها مع الصليبيين، أحد أهم أسباب احتلال بيت المقدس، فظهور الشرك من أعظم أسباب سقوط الدول عند أهل الإسلام عبر الزمان.

كما وقع ذلك في آخر الدولة العثمانية التي شهدت أشد سقوط للخلافة لدى المسلمين، وأعظم هزيمة احتلت بها معظم بلاد العالم الإسلامي -ربما عدا بلاد الحرمين-، وذلك حين انتشرت الخرافة في كل أرجاء بلاد المسلمين، ودعاء الأموات والتعلق بهم، واعتقاد أنهم يملكون الأرزاق والأرواح، وتدبير الكون!

فضاعت الدولة وضاعت الأرض، ولا حول ولا قوة إلا بالله حين دخلت قوات الحلفاء سنة 1917م القدس واحتلت فلسطين كلها، وأعطت وعد بلفور لليهود لإقامة دولة قومية لليهود في أرض فلسطين، وخططوا لذلك وقد كان.

وفي الحقيقة كان زوال الدولة الباطنية على يد نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي -قبل استعادة القدس وسقوط هذه الخلافة المزعومة- من أعظم أسباب عودة القدس وعودة المسلمين إلى السنة أعظم أسباب انتصارهم وتمكينهم.

ثانيًا: كثرة الاختلاف:

كثرة النزاع بين سلاطين الدولة السلجوقية ومقاتلة بعضهم بعضًا، وانهيار سلطة الخليفة العباسي الذي كان رمز الوحدة للمسلمين، فالفُرقة من أعظم أسباب ضعف الأمم، وما عادت القدس إلا بعد أن توحَّدت مصر والشام، على يد نور الدين محمود، ثم لما مات عاد التفرق حتى أعادهم بالقوة صلاح الدين الأيوبي، وسار سلطان مصر والشام باسم الخليفة العباسي، فصارت الدولة واحدة وتمكَّن المسلمون -بعد القضاء على الدولة الباطنية ونشر السنة، وقراءة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في المساجد كشعار لعودة الناس إلى السنة- مِن تحرير القدس وعودتها للمسلمين.

ثالثًا: انتشار الفساد والظلم:

انتشار الظلم والفساد، والفجور والفواحش والمعازف في معظم بلاد المسلمين وقتها، والظلم والفساد العملي هو مِن أعظم أسباب سقوط الأمم، وقد منع الملك العادل نور الدين محمود مظاهر هذا الفساد، فمنع المعازف والحانات وشرب الخمور، وفعل الفواحش وكذلك منع الظلم بأخذ المكوس الباهظة والضرائب الجائرة التي كانت تُفرض على المسلمين، بعد أن تلقى موعظة من أحد الشيوخ الوعاظ، الذي كان يحضر درسه كواحد من المسلمين، فاستنكر عليه بقاء المكوس رغم النهي عن الخمور والمعازف، وحذَّره من مغبة ذلك عند الله يوم القيامة، فبكى نور الدين بكاءً عظيمًا، وأمر بوضع المكوس من ساعته، واستحلال الناس فيما أُخذ منهم وأنه لم ينفق إلا في إعداد الجيوش والجهاد.

ولما مات نور الدين عاد الملوك إلى شرب الخمور، وإباحة ذلك في الناس، وفعل الفواحش وعادوا إلى الظلم، وأخذ المكوس، فردهم صلاح الدين بالقوة عن ذلك، وأعاد الأمور كما كانت في أيام السلطان نور الدين محمود.

والعجب: أن الناس دفعت -تطوعًا ورغبة في النفقة في الجهاد- أضعاف ما كانت تأخذه الملوك والسلاطين من الضرائب والمكوس قبل إلغائها، وتطوع الناس بأغلى ما عندهم بتجهيز جيش صلاح الدين، وقبله نور الدين الذي استنقذ خمسين مدينة من الصليبيين، وأعد العدة لفتح بيت المقدس، وبنى منبرًا قد خطب عليه، يوم عودة القدس بعد فتحها بعد معركة حطين، فلم تتحرر القدس إلا بالمال الحلال الطيب الذي طابت به نفوس المسلمين.

رابعًا: انتشار الجهل:

 انتشار الجهل كان من أعظم أسباب ضعف الدولة الإسلامية في زمن احتلال الصليبيين للقدس، فانتشار العلوم الأجنبية الغربية: كعلم الفلسفة والكلام، والتصوف والفلسفي، والتقليد المذموم، والابتعاد عن نصوص الكتاب والسنة، وغياب روح الجهاد في كلام أهل العلم المتصدرين في ذلك الوقت؛ كان من أعظم أسباب سقوط القدس، ويتعجب الناظر من مؤلفات الكثيرين من علماء المسلمين في نفس التوقيت الذي سقطت فيه القدس، ولا يجد في كتبهم أي إشارة إلى هذا الحدث الجلل، إلا أنه مَنَّ الله عليهم بنوعٍ من العودة إلى السنة وعلومها، وإلى منهج القرآن في الجملة، فكان ذلك من أعظم أسباب انتشار العلم وقمع البدع، فعادت القدس -بفضل الله سبحانه وتعالى-.