• الرئيسية
  • مقالات
  • الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (123) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (27)

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (123) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (27)

  • 48

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

 فقال -تعالى-: (وَوَهَبْنَا ‌لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ . وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ . وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ . أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) (الأنعام: 84-90).

فيها فوائد:

الأولى: لما فارق إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- قومه هو وسارة؛ أبدله الله ذرية طيبة على الكبر، عاشوا مع إبراهيم وسارة على الإيمان والتوحيد؛ فهي خير الصحبة.

وأبدله الله أرضًا طيبة مباركة هي مِن خير الأرض؛ أرض بيت المقدس بدلًا من وطنه الأول الذي أبى قومه الإيمان رغم رؤيتهم الآيات والحجج، وأعطاه الله رزقًا واسعًا؛ حتى ذبح عجلًا سمينًا لعددٍ محدودٍ من الأضياف الذين لم يأكلوا منه شيئًا إذ كانوا من الملائكة وهو لا يدري؛ فدل ذلك على أن العبد إذا ترك شيئًا لله فإن الله يخلفه خيرًا منه وأفضل منه، وأكثر بركة، وأحسن صحبة، وأعظم أجرًا عنده في الآخرة، وقد جعل الله إسحاق ويعقوب  ذرية مهتدية، قرة عين أبيهم وجدهم.

الثانية: ذكر الله نوح -عليه الصلاة والسلام- في مقام الثناء على إبراهيم -صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم-، وإبراهيم ومَن بعده هم مِن ذرية نوح؛ تشريفًا لنوح -عليه السلام- وقد اختلف العلماء في الضمير في قوله: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ)؛ هل يعود على نوح أم يعود على إبراهيم؟ والصحيح: أن الضمير في قوله -تعالى-: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) يعود على إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن سياق الآيات كلها في ذكر فضائله، وإن كان لوط -عليه السلام- ليس من ذريته، ولكنه ابن أخيه، وعم الرجل صنو أبيه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (عَمَّ ‌الرَّجُلِ ‌صِنْوُ ‌أَبِيهِ) (رواه مسلم)، كما أن إيمان لوط -عليه السلام- كان بإبراهيم كما قال -تعالى-: (‌فَآمَنَ ‌لَهُ ‌لُوطٌ) (العنكبوت: 26)، فكانت أبوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- للوط -عليه السلام- مع كونه عمه؛ أبوة الإيمان وولادة الروح به، كما قال -تعالى-: (النَّبِيُّ ‌أَوْلَى ‌بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) (الأحزاب: 6)، وفي قراءة أُبَي: "وهو أب لهم"، والله أعلم.

وبعض أهل العلم رَجَّح أن الضمير يعود إلى نوح، فقالوا: إن جميع المذكورين من ذرية نوح، وهو معنى صحيح، لكن السياق يرجِّح أنه مدح لإبراهيم، وبيان ثوابه في الدنيا والآخرة، والله أعلم.

الفائدة الثالثة: ذَكَر الله هدايته واجتبائه لجميع هؤلاء الأنبياء، ومَن اجتباه واختاره لهُدَاه مِن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم اجتباء نبوة لبعض هؤلاء الذرية والآباء، والأبناء والإخوة، أو اجتباء الصلاح والهداية، وكله اجتباء كما قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا ‌رَبَّكُمْ ‌وَافْعَلُوا ‌الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الحج: 77-78).

وهذا الوصف الذي ذَكَره الله للأنبياء: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)، وقوله: (كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ)؛ هو الوصف المشترك الذي يجمع بين الأنبياء وأتباعهم، ووصف الهداية والصلاح والإحسان هو الذي حَفَّز أهلَ الإيمان مِن عباد الله الصالحين على الاقتداء والاتباع للأنبياء؛ لأن بينهم وبينهم قَدْر مشترك، هو: الإحسان والصلاح، والاجتباء والهداية؛ فهي زمرة مباركة صالحة، وهي نعم الرفيق في الدنيا والآخرة.

الفائدة الرابعة: وفي الآيات إثبات هداية الله لمَن يُشَار مِن عباده، وهي هداية التوفيق والإسعاد والمَنِّ والفضل، وخلق الهدى في قلوب المؤمنين من عباده، وفي هذا: إثبات القدر، وإثبات قدرة الله ومشيئته لأفعال العباد الاختيارية: الظاهرة والباطنة؛ خلافًا للمعتزلة النافين لذلك، المثبتين قدرة الله ومشيئته على الذوات دون الأفعال، مع نفي خلق أفعال العباد! وكل ذلك باطل يردُّه صريح القرآن.

الفائدة الخامسة: دين الأنبياء واحد، هو الصراط المستقيم الذي هو العِلْم بالحق والعمل به، بالقلب واللسان والجوارح؛ الذي بُنِي على توحيد الله واتباع الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-؛ فهو طريق توحيد المعبود -سبحانه-، وطريق المتبوع -صلوات الله وسلامه على الرسل أجمعين-.

الفائدة السادسة: قوله -تعالى- (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام: 88)، دليل على أن الشرك محبط للعمل، كما دَلَّت عليه آيات القرآن؛ قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ . بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ) (الزمر: 65-66)، وقال -تعالى-: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ . أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (هود: 15-16)، وقال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ‌وَيَغْفِرُ ‌مَا ‌دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: 48).

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه -عز وجل-: (أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي ‌تَرَكْتُهُ ‌وَشِرْكَهُ) (متفق عليه).

وهذا يدل على أنه مهما تحمَّل الإنسان من جهد في العبادة أو الزهد، أو حرمان نفسه من ملاذ الحياة، أو عذَّب نفسه بالرهبانية؛ لا يقبل الله ذلك منه إذا أشرك بالله، أو ادَّعى له صاحبة أو ولدًا، أو كَذَّب ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، كما قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ ‌مِثْلَ ‌أُحُدٍ ‌ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ، مَا قَبِلَ اللهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ".

المسألة السابعة: قوله -تعالى-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) دليل على أن شرع الأنبياء قبلنا الذي ثبت بشرعنا كتاب وسنة، شرع لنا ما لم يَرِد شرعنا بخلافه؛ فالأصل عدم النسخ في هذه الشرائع الثابتة بما قَصَّ الله علينا في كتابه، أو أخبرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سنته، ولكن يجب الانتباه إلى أن حكايات أهل الكتاب من كتبهم وعن أنبيائهم لا يعتد بها؛ لما علمنا بنصِّ القرآن من تحريفهم الكلم عن مواضعه، ونسيان ما ذُكِّروا به؛ فقد زادوا وأنقصوا، وحرَّفوا وبدَّلوا في الوحي المنزَّل إليهم؛ فلا يعتد لذلك بكلامهم، فالعبرة في هذه المسألة على ما ثَبَت بشرعنا أنه كان شريعة لأنبياء الله ورسله، ولم يأتِ شرعنا بخلافه، فإن أَتَى شرعنا بخلافه؛ فهو منسوخ.

المسألة الثامنة: الرسل لا يأخذون أجرًا على دعوتهم وتعليمهم للناس، وكذلك أتباعهم الصادقون من أئمة الأمة، لم يأخذوا أجرًا، ولا يأخذون أجرًا على الدعوة وتعليم العِلْم، ونشر السُّنن؛ فهؤلاء أئمة الأمة: كالأئمة الأربعة، وشيوخهم، وتلامذتهم، ما أخذوا درهمًا واحدًا على ما عَلَّموا الأمة، وهؤلاء علماء الحديث الذين رَحَلوا في البلاد كلها: كالبخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم؛ ممَّن بَذَلوا أعمارهم في جمع السنة: هل أخذوا درهمًا واحدًا على تعليم العِلْم؟!

نسال الله أن يجعلنا من أتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- الصادقين.

المسألة التاسعة: قوله -تعالى-: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ): فيه إثبات عالمية الإسلام منذ العهد الأول، ومنذ كان الإسلام محاصرًا في مكة، ومع ذلك فقد استقر في نفس النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين به أن هذا الدِّين ليس خاصًّا بالعرب، ولا بأهل مكة، ولا بقوم دون قوم، بل القرآن ذِكْر للعالم كله، يجب على الإنس والجن الإيمان به واتباعه، والعمل به، ويجب على المؤمنين نَشْر هذا القرآن والدعوة إليه، والدعوة به في أرجاء العالم كله؛ لا يختص بذلك بلد دون بلد، ولا جنس دون جنس، ولا لسان دون لسان، بل يُترجَم إلى الألسنة إلى أن يتعلَّم أهل الألسنة الأخرى لغة العرب؛ ليحسنوا تلاوة القرآن، فيحسنوا التذكر به.

نسال الله أن يَمُنَّ علينا بالذكرى، والحمد لله رب العالمين.