عاجل

في غزة... إني أرى الحضارة الغربية عارية!

  • 50

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

- فتقول بعض الحكايات: إن رجلًا ماكرًا خدع أحد الملوك أنه سيصنع له ثوبًا سحريًّا مبهرًا، لا يراه إلا الحكماء، وبعد فترة جاء ذلك المخادع للملك وهو يدعي أنه يحمل بين يديه ثوبًا لم ترَ العين مثله، ومن روعته لا يبصره إلا أصحاب الألباب والعقول، فصدقه الملك حتى إنه صار لا يرتدي شيئًا وهو متوهم أنه يرتدي أجمل الثياب، وحتى إن حاشية الملك ووزرائه انساقوا خلف ذلك المخادع إما طمعًا في عطاياه أو خوفًا من أن يوصفوا بأنهم غير حكماء، خرج الملك عاريًا وهو يظن أنه يرتدي ذلك الثوب السحري العجيب ليقابل جموع الشعب والكل يظهر الانبهار بذلك الثوب السحري الجميل، ليخرج من بين الجموع صوت طفل صغير عاليًا ليعكر عليهم أجواء الاحتفال صاح الطفل: "إني أرى الملك عريانًا!"، حاولوا إسكاته دون جدوى وهو يردد ويقول: "إني أرى الملك عريانًا!". 

- فإني في أحداث غزة "أرى الحضارة الغربية عارية"؛ فقد عَرَّت أحداث غزة وكشفت عن الحضارة الغربية ثياب الزيف التي ترتديها، ولم تترك لها حتى ورقة التوت التي تداري بها سوأتها، فما إن استفاق العالم في صبيحة يوم السبت السابع من أكتوبر 2023 على وقع هجوم المقاومة الفلسطينية على الكيان المحتل وتكبيده خسائر فادحة في صفوف جنوده ومعداته وسمعته المدعاة حتى تسابقت الدول الغربية لإظهار الدعم المطلق لانتقام إسرائيل، وذرف الدموع على مَن قُتِل من الجنود المحتلين والهرولة نحو زيارة الكيان الصهيوني لإظهار كل أنواع الدعم.

- بادرت أمريكا بإرسال أسطولها البحري وحاملة طائراتها الأحدث وآلاف من جنود المارينز، ثم أقامت جسرًا جويًّا متصلًا ومستمرًا يحمل آلاف الأطنان من القنابل والذخائر التي صبها الكيان الصهيوني على رأس أصحاب الأرض المحاصرين في غزة.

- تعالت صيحات قادة الدول الغربية في سباق محموم حول أهمية القضاء على المقاومة الفلسطينية، ووصمها بالإرهاب والوحشية، دون أدنى اعتبار لحق الشعوب المحتلة في مقاومة ومحاربة قوى الاحتلال والإجرام

- ثم شن جيش الإجرام الصهيوني حملة شعواء من القصف على كل أنحاء غزة؛ تلك البقعة الصغيرة من الأرض، والتي لا تتجاوز 6% من مساحة فلسطين المحتلة، والتي هي على أقصى تقدير أربعين كيلومترًا طولًا في متوسط ستة كيلومترات عرضًا، والتي تعد من أكثر الأماكن ازدحامًا في العالم، قصفت إسرائيل كل شيء؛ البنية التحتية، المدارس الجامعات، المساجد، المخابز، المنازل، هدمت البيوت على رأس ساكنيها!

نقلت الكاميرات مشاهد هي أبشع مِن حروب النازية وإجرام التتار؛ حتى إنها تجرأت وهدمت مستشفى المعمداني على مَن فيه مِن طواقم طبية ومرضى، وعلى رأس مَن فر إليه من المدنيين ممَّن ظن أن الإجرام الصهيوني لن يتجرأ على استهداف المستشفيات، ولكن مَن يعلم نظرة اليهود للعالم مِن حولهم يدرك أن اليهود ينظرون للعالم حولهم على أنهم مجموعة من الحيوانات! فقد وصف الكيان الصهيوني المقاومة الفلسطينية صراحة أنها مجموعة من الحيوانات البشرية، حتى يمهد للعالم ما سيفعله من قصف وتدمير لغزة. 

وحقيقة الأمر: أن اليهود ينظرون للعالم كله من حولهم من غير اليهود على أنهم مجموعة من الحيوانات ليس لها حقوق كما ذكر الله -تعالى- قولهم: (‌لَيْسَ ‌عَلَيْنَا ‌فِي ‌الْأُمِّيِّينَ ‌سَبِيلٌ) (آل عمران: 75)، فقوم يقتلونهم كما تقتل الحيوانات، وقوم تسوقهم إسرائيل كما تساق البهائم كما تفعل مع شعوب الدول الغربية فيتحكمون في اقتصادهم وإعلامهم، وسياستهم وقادتهم تحكمًّا تامًّا، فالحكومات الغربية مستسلمة للوبي الصهيوني ببلادها، ولا زال التاجر اليهودي المرابي له اليد الطولى في رسم السياسة الغربية.

- العجيب أنه بعد أن قصفت إسرائيل مستشفى المعمداني في واقعة ستظل وصمة عار في جبين العالم الحر -زعموا!-؛ خرج علينا "تائه" أمريكا ليقول: إنه يعلم أن إسرائيل لم تفعل ذلك، وإن مَن قام بقصف المشفى هي المقاومة الفلسطينية! حتى يعطي الكيان الصهيوني الغطاء للاستمرار في قصف المدنيين، وتدمير مظاهر الحياة في غزة؛ ليرحل عنها أهلها، ولن تستطيع -بإن الله-.

- رأيت الحضارة الغربية عارية عندما سمعت مسؤول السياسة الخارجية الأوروبية ومذيع الجزيرة يسأله: هل ما قامت به إسرائيل في غزة من قتل الآلاف من المدنيين وتدمير البنية التحتية، وكل مظاهر الحياة... قال: أنا لست محاميًا، الموضوع يعود للمحكمة الدولية! وبعدها مباشرة سأله: هل ما قامت به حماس يوم 7/10 يعد جرائم حرب؟ رد مباشرة: نعم! ولم يقل له: لستُ محاميًا!

- كشفت أحداث غزة زيف الحضارة الغربية وزيف شعارات حقوق الإنسان التي اتخذتها ذريعة للتدخل في شئون الدول الأخرى، فكم من دولة تم القضاء على سلطتها واحتلالها بذريعة حقوق الإنسان وحماية الأقليات، أو بذريعة نشر الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة والحرب على الدكتاتورية! 

وكم من دولة تم حصارها وتجميد أصولها وفرض العقوبات عليها تحت ذريعة حقوق الإنسان، بل ربما أقامت الدول الغربية الدنيا من أجل ناشط أو حقوقي أو من أجل السماح بحرية الشواذ والمنحرفين أو من أجل التضامن مع من سب ودنس مقدسات الدول تحت زعم حرية الفكر، وبالأمس القريب رفض أحد لاعبي كرة القدم ارتداء شعار الشواذ في أحد المباريات؛ فتم عقابه واستبعاده وأعطيت له الدروس الأخلاقية: أنه لا يراعي حقوق الإنسان، بل سخرت المنصات العالمية نفسها من أجل نشر الشذوذ وتجميل صورة الشواذ، فأصبح الشواذ هم أبطال الأفلام والمسلسلات، بل وأفلام الكرتون التي تخاطب الأطفال، بل وأبطال ألعاب الفيديو جيم! طوفان من الدعم ومحاولات مستميتة من أجل فرض تلك الانحرافات على العالم!

- ولما قامت إسرائيل حتى كتابة هذه الكلمات بقتل ما يقرب من 12300 إنسان مدني منهم على الأقل 5000 طفل، لا نقول: إنها حبستهم أو جوعتهم، بل قتلتهم، وليس أي قتلة، بل قصفتهم، والعديد منهم لم تعلم ملامحه، بل جمع جسده قطعة قطعة، وكل ذلك على مرأى ومسمع من العالَم! 

لم تحرك تلك المشاهد الحكومات الغربية، بل وكأنهم لا يرون شيئًا، هم فقط يرون ما حدث يوم 7 أكتوبر حين أهينت الكرامة الصهيونية، ومنذ ذلك اليوم لا يرون شيئًا، بل هم في الحقيقة يروجون للرواية الصهيونية التي تتحدث عن قتل المقاومة الفلسطينية للأطفال وقطع رؤوسهم، ولكل تلك الفبركات الصهيونية التي روجوها دون أي إثبات.

- عرّت أحداث غزة الحضارة الغربية أمام المخدوعين بها الذين صدقوا أنها الحضارة التي تجعل حقوق الإنسان على رأس أولوياتها، وحقيقة الأمر: أن حقوق الإنسان لا تشغل بال الحضارة الغربية في شيء، فمنذ القِدَم وعلاقات الدول الأوربية ببعضها هي علاقة الحروب والإغارة والاستيلاء على الأراضي والقهر، فقد ظلت الدول الأوروبية تعاني من الاحتراب عبر كل تاريخها تنتقل من الحروب النابليونية إلى الحرب العالمية الأولى إلى الحرب العالمية الثانية، حروب قاسية يقتل فيها الملايين من أجل مصالح حفنة من الملوك والحكام، ويا للعجب يقف من خلف أولئك الملوك تجار اليهود الذين كانوا دائمًا يمولون طرفي الحروب في أوروبا. 

- وعندما تهدأ الحروب في أوروبا كانوا يتنافسون على احتلال الدول حول العالم ونهب خيراتها، والاستيلاء على ثرواتها، وتحطيم شعوبها، بل واستعباد تلك الشعوب؛ فلم يتركوا للشعوب أرضهم ولا ثرواتهم، ولا حتى حريتهم، كما قامت أمريكا بإبادة شعب الهنود الحمر، وقامت كندا بإبادة السكان الأصليين وقامت أستراليا بذلك أيضًا، والإمبراطورية البريطانية التي كانت لا تغيب عنها الشمس قامت على غياب حضارات، وقفول دول وممالك؛ هل تعلم: أن بريطانيا العظمى قادت حملتين كبيرتين عرفتا بحرب الأفيون الأولى والثانية؛ لأن الإمبراطور الصيني رفض دخول الأفيون مع التجار البريطانيين إلى الصين، لما كان له من الأثر السلبي على الشعب الصيني، فقادت بريطانيا الحروب من أجل أن يسمح ببيع الأفيون لشعبه! 

- ألقت الولايات المتحدة الأمريكية قنبلتين نوويتين على هيروشيما ونجازاكي، فمحت تلك المدينتين من الوجود في ثوانٍ معدودةٍ، ودأبت الولايات المتحدة على تسعير الحروب حول العالم، ففي الحرب الكورية وحدها قُتِل ما لا يقل عن أربعة ملايين نسمة، والحديث يطول في هذا الشأن. 

- حتى عندما حملت الولايات المتحدة حقيبتها وراحت تنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط، وحلت بدولة العراق، لم تلبث إلا قليلًا وخرجت لنا مشاهد مروعة من "سجن أبو غريب" للجنود الأمريكان وهم يقومون بأبشع أنواع التعذيب وسط جو من المرح، بل وتصوير أنفسهم وهم يقومون بتلك الأفعال البشعة التي لا يقوم بها إلا حثالة البشر، فتخيل الأفعال الشنيعة الأخرى التي قاموا بها ولم تصورها الكاميرات! 

- ما يحدث في غزة هو امتداد طبيعي لما قامت به الحضارة الغربية في كل مكان حلت به، وما تقوم به الحضارة الغربية من دعم الهجمات الصهيونية المجرمة على الشعب الفلسطيني هو يتوافق مع تاريخ مظلم لهم، احتلوا فيه الدول وأحرقوا فيه الأرض، ونهبوا فيه الخيرات، وساموا الناس سوء العذاب.

- ما يحدث الآن في غزة هو برهان عملي للمسلمين والعرب والشعوب المستضعفة ألا تثق في الحضارة الغربية، ولا في المتأثرين بها، وألا ينتظروا من الدول الغربية لا عدلًا ولا إنصافًا، فالدول الغربية لا ترى لأحد حقوقا إلا حقوق شعوبها، وأما حقوقنا فلا ترد إلا بالمقاومة والإعداد والتضحية، وانتزاع الحق من بين أنياب الاحتلال وإجباره على الرحيل يجر أذيال الخيبة والخسارة.

- ما يحدث في غزة إذا كان يفضح الحضارة الغربية فهو أشد فضحًا لمندوبي الحضارة الغربية في بلادنا، والذين تشربوا تلك الحضارة المادية البغيضة، والذين يمولون من تلك الدول، والذين لا يتوقفون عن الهجوم على حضارتنا وقيمنا وديننا ومعتقداتنا وتراثنا، وإعلامنا ورموزنا، وعلى شريعتنا الغراء وعلى تاريخنا الناصع، ويحاولون بكل السبل أن يشوهوا هذا التاريخ، تتبع هؤلاء المستأجرين لن تسمع لهم حسًّا، سيتوارون عن الأنظار وكأنهم أغراب عنا وعن قضيتنا وقضية كل مسلم وعربي صادق، لن تسمع منهم إدانة لإجرام الصهاينة، ولن تسمع منهم إدانة لموقف الدول الغربية الداعم للإجرام الصهيوني، ولو سمعت إدانة منهم على استحياء لا بد أن يقدمها بتوجيه الاتهامات للمقاومة حتى لا يفقد الرضا الغربي، ولا الدعم الغربي ولا المال الغربي.

- ستسمع سفراء الحضارة الغربية يحدثوك إن تم استضافتهم في البرامج يقولون لك: إن الحرب مع اليهود ليست دينية، إنه ينبغي أن نتعامل مع اليهود على أنهم أمر واقع لا مفر له، سينزعجون جدًّا إن حدثتهم عن موقف الغرب الداعم لإسرائيل، سيهربون من تخطئة الغرب إلى تخطئة المتطرفين من الجانبين، ستجدهم يساوون بين الضحية والقاتل، يساوون بين صاحب الأرض وبين المحتل الغاصب، وبعضهم تعدى إجرامه كل الحدود كما فعلت تلك الناشطة التي صرحت أنها ترى في إسرائيل دولة صديقة، وأن بيننا سلام ممتد لأكثر من أربعين سنة، وأنها ستبقى عمرها تحارب التطرف الإسلامي، وغيرها من التصريحات التي يندى لها جبين البشرية، ولكن لا غرابة على من تحلل من قيمه، وخلع ثوبه وارتدى ثوب الحضارة الغربية الزائف، فكان نصيبه أنه ظهر عاريًا أمام أبناء شعبه فلم يجد له ملجأً إلا الفرار حيث أعداء أمته وقتلة شعبه!

- إن ما يحدث في غزة برغم ما به من ألمٍ لما يصيب بعضًا من جسدنا المسلم، ورغم أن جسدنا يئن له ويتألم له أعظم الألم؛ إلا أن من وراء ذلك من الخير ما الله به عليم، فاستفاقة شرائح كبيرة من أبناء شعبنا عن وهم مرجعية الحضارة الغربية المادية البائسة، ومعرفة هذه الشرائح غايات تلك الحضارة من الاستيلاء على خيرات الشعوب، شعارهم القديم: "بالجنود احصل على الذهب، وبالذهب احصل على المزيد من الجنود!"؛ ذلك الشعار الذي استولوا به على مقدرات الشعوب. 

ومن وراء هذه المحنة خير آخر، وهو: معرفة حقيقة سفراء الحضارة الغربية والممهدين لها في بلادنا، وإدراك لماذا يهاجمون الكتاب والسنة، والبخاري ومسلم، والشريعة، ولماذا يهاجمون الفقهاء والرموز التاريخية، لماذا يريدون تشوية حضارتنا الإسلامية التي لم تعرف البشرية لها مثيل، ما يحدث فرصة عظيمة للتمسك بثوابتنا ولمعرفة تاريخنا ولإحياء معالم حضارتنا الإسلامية، ما يحدث فرصة لبناء بلادنا وتعويض ما فاتنا، وإنتاج ما نحتاجه من مطعم وملبس، وتكنولوجيا، وسلاح.

ما يحدث فرصة أن نستعيد زمام الأمور، ونعلم: أن الفجوة الحضارية بيننا وبين الحضارة الغربية لو صحت عندنا النية والإرادة وارتكزنا على مرجعيتنا الثابتة، فإننا يمكن أن تردم هذه الفجوة في أوقات قياسية خاصة، وأن رسالتنا للبشرية هي رسالة رحمة وسعادة للدنيا والآخرة، وأن حضارتنا تخاطب الجسد والروح، حضارتنا تعرف الحق وترحم الخلق، حضارتنا لا تُكرِه أحدًا على الدخول في الدين، حضارتنا تعرف العدل مع المسلم وغير المسلم، بل تعرف العدل والرحمة مع العجماوات، حضارتنا عاش في كنفها المسلمون والنصارى، بل واليهود آمنين على أموالهم ودمائهم وأعراضهم وتجارتهم، لا يخشون الظلم أو القهر لمئات السنين، وليتمن الله هذا الأمر حتى لا يترك بيت مدر ولا وبر إلا دخله بعز عزيز أو بذل ذليل.