هذه أخلاقنا... وتلك أخلاقهم! (1)

  • 55

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد أثارت تلك المشاهد التي وقعت من الأسرى اليهود تجاه رجال المقاومة انتباه الكثيرين، فهم يودعون مَن أسروهم وكأنهم أهلهم! وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على تلك المعاملة الراقية التي تلقوها أثناء فترة الأسر من قِبَل المسلمين.

وهذا الأمر وإن تعجب منه غير المسلمين، لكنها أخلاق المسلمين… أخلاقنا التي أرساها للأمة نبينا -عليه الصلاة والسلام-، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- إذا بعث بعثًا أو سرية أوصاهم: (‌اغْزُوَا ‌بسمِ ‌اللَّهِ، ‌فِي ‌سَبِيلِ ‌اللهِ، قَاتَلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوَا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا) (رواه مسلم)، فالغاية واضحة من البداية، وكذا أخلاقنا حال غزونا وبعده.

ولما وجد النبي -صلى الله عليه وسلم- امرأة مقتولة غضب، وقال: (مَا ‌كَانَتْ ‌هَذِهِ ‌لِتُقَاتِلَ) (رواه أبو داود، وقال الألباني: حسن صحيح)، ونهى -صلى الله عليه وسلم- عن قتل النساء والصبيان إلا إذا قاتلن؛ فالمجاهد يعرف غايته، وهي: إعلاء كلمة الله ونشر دين الله، وليس طلب دنيا ولا سفك الدماء، ليس يتلذذ بقتل البشر؛ إنما هو يريد إنقاذ البشرية من السقوط في النار بكفرها، ويريد إيصال النور والهدى إلى كل خلق الله.

إن كلمة: (‌فِي ‌سَبِيلِ ‌اللهِ) حاكمة لكل سلوكيات الحرب وتصرفات المجاهدين، وما الوفاء بالعهد والعفو والتسامح والإحسان والعدل؛ إلا امتثال لتلك القاعدة الخلقية السامية.

والناظر إلى حروب المسلمين قديمًا وحديثًا يظهر له بجلاء تطبيق هذه القواعد والمحافظة عليها؛ قال غوستاف لوبون: "ما عرف التاريخ فاتحًا أرحم من العرب"؛ يقصد المسلمين.

وقال توماس أرنولد في سياق حديثه عن عدل المسلمين في فتوحات الشام: "ولما بلغ الجيش الإسلامي وادي الأردن، وعسكر أبو عبيدة في (فحل) كتب الأهالي المسيحيون في هذه البلاد إلى العرب يقولون: يا معشر المسلمين، أنتم أحب إلينا من الروم وإن كانوا على ديننا، وأنتم أوفى لنا وأرأف بنا، وأكف عن ظلمنا وأحسن ولاية علينا، ولكنهم غلبونا على أمرنا ومنازلنا!".

ولا أريد أن أطيل في هذا السياق لأنتقل إلى بعض المقارنات بين أخلاقنا وأخلاقهم، وكيف هم في الحروب:

كم بلغ عدد القتلى في حروب النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة؟ وكم عدد القتلى في حروبهم؟ السرايا والبعوث والغزوات خلال عشر سنوات بعد هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، كم كان عدد مَن قتلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟

رجل واحد، وهو أُبَي بن خلف في غزوة أُحُد.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولم يقتل بيده أحدًا لا قبلها ولا بعدها".

وعدد القتلى من الفريقين في كل هذه الحروب يتراوح ما بين (625) إلى (1018) قتيل تقريبًا، ومن الطرفين لم يقتل من النساء سوى مَن تقدمت - المرأة التي وجدوها مقتولة وقال "ما كانت هذه لتقاتل" -، ولا الشيوخ ولا الأطفال، ولم توجد حالات اغتصاب للنساء.

كم عدد القتلى في الحرب العالمية الأولى والثانية؟

في الأولى حوالي 10 ملايين، أما في الثانية فأكثر من 60 مليون قتيل!

ماذا قال؟ وماذا فعل -صلى الله عليه وسلم- بأهل مكة لما فتحها وهم مَن عذبوا أصحابه وقتلوا بعضهم وأجلوهم عن بلادهم؟ ماذا فعل بهم -صلى الله عليه وسلم-؟!

وماذا فعل أصحابه ومن بعده من قادة المسلمين في قتالهم؟ وكيف كانت أخلاقهم؟!

التاريخ يوقفنا على جوانب عظيمة من ذلك:

ثار بعض سكان لبنان على عاملهم علي بن عبد الله بن عباس، فحاربهم وانتصر عليهم، ورأى أن مِن الحكمة أن يفرقهم ويجلي فريقًا منهم عن ديارهم إلى أماكن أخرى، وهذا أقل ما يمكن أن يفعله اليوم حاكم في أرقى الأمم، فما كان من الإمام الأوزاعي -رحمه الله- إمام الشام ومجتهدها وعالمها، إلا أن كتب إلى والي لبنان رسالة ينكر عليه ما فعل، من إجلاء بعض اللبنانيين عن قراهم، ومعاقبة مَن لم يشترك في الثورة كمن اشترك فيها.

وكان مما كتب إليه في ذلك: "وقد كان إجلاء أهل الذمة في جبل لبنان، ممن لم يكن ممالئًا لمن خرج على خروجه ممن قتلت بعضهم ورددت باقيهم إلى قراهم ما قد علمت؛ فكيف تؤخذ عامة بذنوب خاصة حتى يُخرجوا من ديارهم وأموالهم؟ وحكم الله -تعالى-: (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (النجم: 38)، وهو أحق ما وُقف عنده واقتدي به، وأحق الوصايا أن تحفظ وترعى وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنه قال: مَن ظلم معاهدًا أو كلَّفه فوق طاقته، فأنا خصمه يوم القيامة"، فما كان من والي لبنان إلا أن ردهم إلى قراهم معززين مكرَّمين!

وللحديث بقية -إن شاء الله-.