استعينوا بالله واصبروا (2)

من تراث الدعوة في القضية الفلسطينية

  • 99

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فالكفار يكيدون كيدًا، والله -عز وجل- يكيد كيدًا، (فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) (الطارق:17)، وكذلك قال -سبحانه-: (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ) (القلم:40)، يمد لهم -عز وجل- لكنهم مربوطون فيما أراد -عز وجل- أن يكونوا فيها (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) لمتانة كيده -عز وجل- أملى لهم، وفتح عليهم أبواب كل شيء، قال الله -سبحانه وتعالى-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ . فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ . فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام:42-45).

وقال الله -سبحانه وتعالى-: (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ) أي: إلى الزخرف من القول الغرور، (أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ) فمن حكمته -سبحانه وتعالى- أنه جعل قلوبًا تميل إلى هذا الباطل وتقبله وتحبه وترضاه، وتعين عليه وتدعو له، وتسعى إلى نشره في الأرض، وهذا باطل وأمر قبيح، ولكن كثير جدًّا من النفوس تميل إليه، بسبب ماذا؟ بسبب انعدام الإيمان (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ) (الأنعام: 113)؛ ليكتسبوا ما هم مكتسبون، لتكون نهايتهم، ولتكون عاقبتهم كما كانت عاقبة من قبلهم.

كذلك استحضر أن الله الذي يجعل هذا في النهاية لا شيء، يجعله مطموسًا عليه، فلا يثمر الثمرة التي رجاها أصحابه منه، هان عليه أمرهم؛ ولذا دعا موسى -عليه السلام- ربَّه أن يطمس على أموال آل فرعون، قال: (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ) (يونس:88)، ومضى زمن، بعض أهل العلم من أهل التفسير يقول: "بين الدعوة وبين الإجابة أربعون سنة"، فالله أعلم كم كان الوقت؟! ولكن الدعوة أجيبت، ولا يعني ذلك أن تجاب في نفس اللحظة، فالدعوة المجابة يمكن أن تبقى مدة لا يرى الناس إجابتها في الواقع إلى أن يأذن الله -سبحانه وتعالى-؛ لأن كل شيء بمقدار (قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) (يونس:89).

كذلك الاستقامة على أمر الله هي من أعظم ما يعين على الثبات على دين الله، وعدم متابعة سبيل الذين لا يعلمون، وعدم متابعة الكفرة، والظلمة والمنافقين والفسقة؛ فكل هؤلاء لا يعلمون، وبالأولى أنك لا تكون من الذين لا يعلمون، فإذا كنت قد نُهِيت عن اتباع سبيلهم، فمن باب أولى ألا تكون منهم، فذلك العلم من أعظم ما يعين على الثبات على دين الله -سبحانه وتعالى-، أن تكون على علم؛ لأنك إذا علمت الحق وأيقنت بوعد الله -سبحانه وتعالى- فإنك لن تعبأ بما تراه من مقدمات وبدايات.

هذا هو الدرس الأول والفائدة الأولى، أن تستحضر أن الأمور بمقادير؛ أن تشهد قضاء الله -عز وجل- وقدره، وأن الملك لله -سبحانه-، وأنه يفعل ما يشاء، وأن الأمور كلها بيده، (هُوَ الَّذِي جَعَلَ) تكرر هذا في القرآن كثيرًا.

قال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) (الفرقان:31)، فالله -عز وجل- جعل المجرمين يدبِّرون الإضلال، ومع ذلك فكفى بالله هاديًا، والمؤمنون لا يجدون أي سبيل للنصرة من الناس في الأرض، والله كفى به نصيرًا (وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا).

كما أنه -سبحانه وتعالى- الذي يجعل أئمة الهدى، فأنت إذا نظرت إلى مِنَّة الله -عز وجل- عليك أن جعلك مؤمنًا مسلمًا، وترجو أن تكون محسنًا في ظروف وفي أحوال، أكثر أهل الأرض فيها قد ضلوا عن سبيل الله، فذلك مِنَّة من الله -سبحانه وتعالى- عليك، فهو -عز وجل- الذي جعلك كذلك، فاشهد مِنَّته وفضله العظيم.

ووالله إنه لفضل عظيم أن يصطفيك الله -سبحانه وتعالى- لدينه وسط هذا الركام الهائل، وسط هذه الضلالات والمنكرات والمفاسد، فيجعلك ملتزمًا بطاعته؛ اختارك الله من بين ملايين البشر لتكون مسلمًا، وقد جعل غيرك يعبدون البقر، ويعبدون الشياطين، ويعبدون الأوثان، ويعبدون البشر، وينسبون إلى الله الصاحبة والولد، ويفعلون ويفعلون، انظر إلى ما اجتباك الله به: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ) (الحج:78).

مِنَّة من الله أن سمَّاك مسلمًا قبل أن تُولَد، وكتبك في اللوح المحفوظ مؤمنًا مسلمًا متابعًا لنبيه -عليه الصلاة والسلام- قبل أن يصدر منك شيء، وقبل أن توجد الأرض بمن فيها، فإن الله كتب في الذكر كل شيء، وكتب مقادير الخلائق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فإذا نظرت إلى هذا رأيت مِنَّة الله عليك.

وإذا كنت ممَّن رفع الله همته أكثر فجعله يعمل من أجل الإسلام؛ فهذا -والله- لهو الشرف، فإذا كنت تعمل بالإسلام، وإذا كنت ملتزمًا بالدين في وسط الملايين من الكفرة والمنافقين، بل آلاف الملايين من البشر؛ فذلك شرف عظيم لك.  

فإذا أضفتَ إلى ذلك -وهي في الحقيقة من ضمن العمل بالإسلام-: أن تعمل من أجل إعلاء كلمة الله، وتدعو إليه، وتسعى لتكون كلمة الله هي العليا؛ فهذا شرف وكرم من الله -تعالى- عليك أعظم.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.