• الرئيسية
  • مقالات
  • الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (148) اجتباء الله لإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف صلى الله عليهم وسلم (4)

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (148) اجتباء الله لإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف صلى الله عليهم وسلم (4)

  • 54

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقوله -تعالى-: (‌وَكَذَلِكَ ‌يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (يوسف: 6).

الفائدة الرابعة:

بيَّنا في المقال السابق: أن اسم الله الحكيم، هو بمعنى الذي لا يفعل ولا يَشْرع شيئًا إلا لحكمةٍ وغايةٍ محمودةٍ، وكذلك له معنى آخر، وهو معنى المُحْكِم للأشياء؛ الذي أتقن صنع كل شيء، وتدبير كل شيء، وكلا المعنيين في قصة يوسف -عليه السلام- يظهر في تفاصيلها من آثارهما العجب!

فتأمل حكمة الله في إلقاء يوسف في الجب، ثم بيعه رقيقًا، وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، كيف كان هذا في الحقيقة سببًا لعلوه وارتفاعه على إخوته الذين أرادوا إنزاله، فارتفع -بفضل الله-، وأرادوا إذلاله فعَزَّ بتقدير الله وحكمته!

وانظر كيف كان السجن سببًا للمُلك، ولو لم يُبتلَ يوسف -صلى الله عليه وسلم- به لظلَّ في رقِّ العبودية، فكان الضيق سببًا للسعة؛ لحكمة الحكيم -سبحانه وتعالى-، وغير هذا كثير مما ورد في أثناء تفاصيل القصة.

وتأمل كذلك إتقان التدبير والكيد منه -سبحانه-، وكيف كان الأمر في غاية الإحكام لينفذ أمره، (وَاللَّهُ ‌غَالِبٌ ‌عَلَى ‌أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف: 21).

ولقد ظل يوسف -صلى الله عليه وسلم- متعلقًا بأسماء الله الحسنى التي عَلَّمها له أبوه عبر السنين، وظهر هذا جليًّا في نهاية القصة بعد السنين الطوال والفراق البعيد، فيقول لأبيه: (‌إِنَّ ‌رَبِّي ‌لَطِيفٌ ‌لِمَا ‌يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (يوسف: 100)، نفس الأسماء التي ألقاها على سمعه وقلبه أبوه الكريم في صغره، يكررها هو في كبره، بعد أن شهد آثارها العظيمة في التمكين له بعد أنواع الابتلاء؛ هذا يؤكد لنا أهمية التربية الإيمانية على فهم معاني الأسماء والصفات والتعلُّق بها؛ حتى لو كانت البيئة بعد ذلك غير مُعِينة على نفس التربية، بل حتى لو كانت البيئة فاسدة كالتي عاش فيها يوسف -صلى الله عليه وسلم- في مصر في قصر العزيز، كانت بيئة كافرة ماجنة لاهية، ومع ذلك بقي أثر التربية العظيمة.

ولهذا لا يصح أن يُقَال: إن ما نبنيه في سنين يُهدَم بكيد الأعداء في يوم! هذا ليس صحيحًا، فإن البناء الراسخ لا تهدمه مكائد الأعداء، وتأمل في قصة أصحاب الأخدود، كيف كانت تربية غلام واحد سببًا لتغيير أمة بكاملها من الكفر إلى الإيمان، إلى الشهادة في سبيل الله!

وتأمل في وصية لقمان لابنه كيف كان يعلِّمه أسماء الله الحسنى: (‌إِنَّ ‌اللَّهَ ‌لَطِيفٌ ‌خَبِيرٌ) (لقمان: 16)، (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (لقمان: 18).

وتأمل كذلك الكلمات التي علَّمها النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس -رضي الله عنهما-: (يَا غُلَامُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، ‌رُفِعَتِ ‌الأَقْلَامُ ‌وَجَفَّتْ ‌الصُّحُفُ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

فبقيت -هذه الكلمات- في نفس ابن عباس -رضي الله عنهما- إلى أن علَّمها لتلامذته في كبره؛ فهذا يُظهِر لك ضرورة هذه التربية، ومدى التقصير الذي يقع فيه الآباء والمربون إذا أهملوا هذا الجانب من جوانب التربية.

فبالقطع واليقين إن طريقة علم الكلام بالتعريفات الرياضية والحدود الكلامية، هي أبعد الطرق وأظلمها؛ فهي تساعد على انحراف القلب وابتعاده عن فهم حقائق الإيمان، فليبتعد عنها الأب والمربي، وعليه بطريقة الكتاب والسنة والسَّلف الصالح -رضوان الله عليهم-؛ فإنها التي بها حياة القلوب، وبها صلاح العقيدة، وبها ثبات الإنسان في صغره وكبره، عند تعرضه للمحن، وهكذا كان يوسف -صلى الله عليه وسلم- كالجبل الشامخ، لا تثنيه الفتن؛ سواءً كانت الترغيب أو الترهيب، سواء كانت الشهوات أو الشبهات؛ ظل راسخًا على الإيمان الذي علَّمه له أبوه. ولله الحمد والمِنَّة.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.