كلمات في محبة النبي -صلى الله عليه وسلم-

  • 45

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فلا شك أن محبة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- دين وقربة وإيمان؛ لا سيما وقد نص الشرع الحنيف على وجوبها.

ولكن كلما كان الحب مبنيًّا على علم عميق وثيق، كان أقوى وأشد، ومن إحسان الله -تعالى- إلى خلقه أن ركَّب فيه -صلى الله عليه وسلم- من الصفات والأخلاق ما تضطر النفوس مع معرفتها إلى محبته -صلى الله عليه وسلم-، ولما كان الصحابة -رضوان الله عليهم- أعرف الناس به -صلى الله عليه وسلم- وأقربهم منه معاملة، وخلطة وجوارًا، في حل وترحال؛ كان ذلك من أهم أسباب عظيم إيمانهم به ومحبتهم له -صلى الله عليه وسلم-؛ حتى إنك لتجد نبض هذا الحب في كلماتهم العطرة التي سجَّلها لنا التاريخ لتحيا بها القلوب، ويسمو بها الإيمان.

ولك أن تتخيل وتحيا بفكرك وقلبك، ولو لبضع دقائق مع هذا المشهد الذي يترجم لك سمو هذه النفس الشريفة، ومدى تأثر النفوس بها وانقيادها لها، ولو اعتراها أحيانًا بعض مما يعتري النفوس البشرية من أغبرة الدنيا؛ ترى هذا التأثر والانقياد العجيب ليس وليد لحظة، بل توفيق من الله أولًا ثم معرفة عميقة عبر سنوات من البذل والجهاد، بانت لهم فيها صفات نفس شريفة أدبها الله -سبحانه- واصطفاها بأحسن الأخلاق، فكانت محبة مبنية على علم.

"لما منح الله -تعالى- رسوله غنائم حنين قسمها النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو أحق أهل الأرض بالعدل والحكمة والإنصاف، فأعطى للمؤلفة قلوبهم من قريش وسائر العرب ولم يعطِ للإنصار منها شيئًا لا قليل ولا كثير، فوجد الأنصار في أنفسهم، فكلم سعد بن عبادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار وجدوا عليك في أنفسهم. قال: فيم؟ قال فيما كان من قسمك هذه الغنائم في قومك، وفي سائر العرب، ولم يكن فيهم من ذلك شيء. 

فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اجمع لي قومك في هذه الحظيرة، فإذا اجتمعوا فأعلمني، فخرج سعد فصرخ فيهم فجمعهم في تلك الحظيرة حتى إذا لم يبقَ من الأنصار أحدٌ إلا اجتمع له ثم خرج لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقام فيهم خطيبًا، فحمد الله -تعالى- وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: وتأمل في منطق النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي يأسر السامع بحكمته وإنصافه وتواضعه، يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالًا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟! قالوا: بلى. قال رسول الله: ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟ قالوا: وما نقول يا رسول الله؟ وبماذا نجيبك؟ المن لله ورسوله.

قال: والله لو شئتم لقلتم فَصَدَقْتُمْ ‌وَصُدِّقْتُمْ، جئتنا طريدًا فأويناك وعائلًا فآسيناك، وخائفًا فأمناك، ومخذولًا فنصرناك. فقالوا: المن لله ورسوله. فقال: أوجدتم في نُفوسِكُم يا مَعشرَ الأنصارِ في لُعاعَةٍ مِن الدُّنيا تألَّفتُ بِها قَومًا أسلَموا، ووَكَلتُكُم إلى ما قسمَ اللهُ لكُم مِن الإسلامِ؟! أفَلا تَرضَونَ يا مَعشرَ الأنصارِ أن يذهبَ النَّاسُ إلى رِحالِهِم بالشَّاءِ والبَعيرِ، وتذهَبونَ برسولِ اللهِ إلى رِحالِكُم؟ فَوَالَّذي نَفسي بيدِهِ، لَو أنَّ النَّاسَ سَلَكوا شِعبًا وسَلَكتِ الأنصارُ شِعبًا، لسَلَكتُ شِعبَ الأنصارِ، ولَولا الهجرةُ لكُنتُ امْرَأً مِن الأنصارِ. اللَّهمَّ ارحَمْ الأنصارَ، وأبناءَ الأنصارِ، وأبناءَ أبناءِ الأنصارِ. فبكَى القَومُ حتَّى أخضَلوا لِحاهُم. وقالوا: رَضينا باللهِ رَبًّا، ورسولِهِ قسمًا، ثمَّ انصرفَ... وتفرَقوا" (رواه أحمد، وصححه الألباني).

هذا المشهد وهذا المقطع من حياة أعظم مربٍّ عرفته البشرية، حقيق أن يدرسه كل معلم ومربي، وكل سياسي وقائد؛ ليأخذ منه الفوائد، والدروس، والقيم، والعظات.

وأنا أشير فقط إلى خُلُق واحد فقط من أخلاقه وسجاياه الكريمة -صلى الله عليه وسلم-، وهو: العدل والإنصاف من النفس، وقد بدا جليًّا في هذا المشهد، فالنبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- يذكر الأنصار بفضل الله عليهم بهجرة رسوله إليهم، وأنهم كانوا ضُلالًا فهداهم الله، وعالة فأغناهم الله، وأعداءً فألَّف الله بين قلوبهم، والأنصار -رضوان الله عليهم- مقرون بذلك، ولم يتكلموا بغير الإقرار بفضل الله وفضل رسوله -صلى الله عليه وسلم- عليهم، وإذا بسيد ولد آدم ومعلِّم البشرية القسط والإنصاف والرحمة، يقول لهم: "ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟! فقالوا: ما نقول؟ وبماذا نجيبك يا رسول الله؟"، نعم هُمْ لعظيم إيمانهم وتوقيرهم لسيدهم ومربيهم محمد -صلى الله عليه وسلم- لا يستطيعون أن يجيبوه، فالقول قول الله -تعالى-، وقول رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فما زادوا على "بلى، المن لله ورسوله".

فإذا به -صلى الله عليه وسلم- يجيب عنهم على نفسه -صلى الله عليه وسلم-، وهذا أروع مثال في القسط والإنصاف من النفس، فقال: "والله لو شئتم لقلتم فَصَدَقْتُمْ ‌وَصُدِّقْتُمْ"، أي: لكنتم صادقين فيما قلتم، ووجدتموني مصدقًا لكم، ومقرًّا بما قلتم.

وتأمل ماذا قال صاحب الخلق العظيم -صلى الله عليه وسلم-: "جئتنا طريدًا فأويناك، وعائلًا فآسيناك، وخائفًا فأمناك، ومخذولًا فنصرناك".

فصلى الله وسلم وبارك على الصادق الأمين، صاحب الخلق العظيم.