الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (157) دعوة غيَّرت وجه الأرض (4)

  • 36

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41).

الفائدة الثانية:

هذه الدعوة المباركة: (رَبِّ اجْعَلْ ‌هَذَا ‌بَلَدًا آمِنًا) (البقرة: 126)، كانت قبل أن تكون البلدة، ثم كانت الدعوة المباركة الأخرى: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا) (إبراهيم: 35)، بعد تكونها.

كان الدعاء الذي غيَّر وجه الحياة على سطح الأرض؛ الذي نَشَر الله -عز وجل به- التوحيد في مشارق الأرض ومغاربها؛ إذ من ذرية إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- إسماعيل ومحمد -صلى الله عليهم وسلم- الذي أراد الله بحكمته وعلمه أن يكون هو الذي يرفع لواء دعوة التوحيد؛ دعوة الأنبياء جميعًا في أرجاء الأرض كلها -بفضل الله-، وتكون أمته من بعده حاملة هذا اللواء؛ تنشر توحيد الله، وتعلن الكلمة الخالدة: "لا إله إلا الله"؛ شعارًا للحياة، وشعارًا للأمة الإسلامية.

ولا توجد أمة من الأمم؛ سواء ممَّن ينتسب إلى الأنبياء أو مَن لا ينتسب لهم يرفع هذا الشعار أو يطبِّقه في الحياة، أو يسعى إلى إعلاء هذه الكلمة في الأرض "سوى أهل الإسلام"، وإنما تجد الأمم حتى مَن ينتسب إلى الأنبياء، جعلوا شعائر خاصة بهم خلاف ما أوصى بهم الأنبياء، وإن كانت الوصية مسجَّلة عندهم أنها أول الوصايا جميعًا: "أن نعبد الله وحده لا شريك له"؛ هكذا في وصايا موسى العشر في التوراة، كما هي وصية المسيح في الإنجيل.

وبفضل الله -عز وجل- إنما يرفع هذه الكلمة ويطبِّقها في الحياة "أهل الإسلام"؛ الذين يتجهون من كل مكان لهذه البقاع الطاهرة، ويخرجون قاصدين مِنى ثم عرفات، ثم يردون بعد ذلك إلى المشعر الحرام، ثم إلى منى، ثم إلى البيت العتيق مرة ثانية؛ قاصدين بذلك مرضاة ربهم، يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا.

وهكذا قَدَّر الله -عز وجل- أن يأتي إسماعيل -عليه السلام- مع أمه، ويتركهما إبراهيم -عليه السلام-، وتقول له هاجر: إلى مَن تتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء! وكأن السؤال ما كان ينبغي أن يكون، مع علمها برحمة إبراهيم وشفقته على جميع الناس؛ فكيف بولده؟! ولذا لم يجبها إبراهيم -عليه السلام-، ولم يلتفت إليها؛ إذ كيف تظن به -وهو الرفيق الرحيم الشفيق بالخلق- أن يكون قاسيًا على ولده وفلذة كبده، وعلى أَمَتِه أمِّ ولده التي عاشرها وعاش معها، ووحدت الله -عز وجل- على يديه؟! كيف يمكن أن يُظن به ذلك وهو يدعو لمَن عصاه بالمغفرة والرحمة: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)؟!

والأصنام أضلت من دعا إليها، وعبادتها تضل كثير من الناس؛ فهو يعتبر بحال الأكثر، ويخشى على نفسه وبنيه أن يقعوا فيما وقع فيه الناس، فمَن قال: "إنه يأمن الشرك على نفسه!"؛ فهو جاهل، كما قال إبراهيم التيمي: "مَن يأمن البلاء بعد إبراهيم؟!" (رواه ابن جرير وابن أبي حاتم).

ومن يأمن أن يقع فيما حذر الله منه من الشرك بعد أن يدعو إبراهيم صلى الله عليه وسلم بالنجاة منه ولبنيه، ولقد استجاب الله دعوته، فلم يكن أحدٌ من بنيه أو ذريته المباشرة مشركًا، وإنما وقع الشرك في الأجيال التالية بعد ذلك، كما ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن ما بعد إسماعيل عشرة أجيال كلهم على التوحيد حتى سَنَّ الشرك ونشره في العرب عمرو بن لحي الذي رأه النبي -صلى الله عليه وسلم- يجر قصبه في النار.

ولننظر.. كيف تكون الدعوة مستمرة الأثر أجيالًا متتابعة؟!

دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- أثَّرت في حياة البشر في هذه البقعة إلى يومنا هذا، ومنها خرجت إلى جميع أرجاء الأرض، حتى يُنَادى بـ"لا إله إلا الله" في دائرة القطب الشمالي يؤذن فيها بالصلاة، وفي كل قارات العالم.

دعوة التوحيد التي جددها النبي -صلى الله عليه وسلم- وقام بها في الأرض كلها، بعد أن كان الأنبياء يقومون بها في أقوامهم قام بها النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأرض كلها، وبُعِث إلى الأحمر والأسود، وأرسل أصحابه إلى المشارق والمغارب، يدعون إلى دين الله -عز وجل-، وتوحيده واتباع نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وأمر أمته بالجهاد لإعلاء كلمة الله في كل مكان.

الفائدة الثالثة:

قوله -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام-: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي)؛ هذا هو النَّسب الحقيقي اتباع إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- كما قال الله -عز وجل- لأمة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-: (‌مِلَّةَ ‌أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) (الحج: 78)، فإبراهيم أبو المؤمنين وإن لم يكونوا من نسبه فهو أبوهم بالروح والقلب؛ ذلك أن ولادة قلوبهم وهي أعظم من ولادة البدن كانت بدعوته التي جددها النبي -صلى الله عليه وسلم-، والنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- أبو المؤمنين كما قال -تعالى-: (‌النَّبِيُّ ‌أَوْلَى ‌بِالْمُؤْمِنِينَ ‌مِنْ ‌أَنْفُسِهِمْ ‌وَأَزْوَاجُهُ ‌أُمَّهَاتُهُمْ) (الأحزاب: 6)، وفي قراءة أُبَي وابن عباس: "النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ‌وَهُوَ ‌أَبٌ ‌لَهُمْ"، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا أَنَا ‌لَكُمْ ‌بِمَنْزِلَةِ ‌الْوَالِدِ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني)، وذلك بأنه هو -عليه الصلاة والسلام- الذي وُلِدت به هذه القلوب من ظلمات الجهل والظلم، إلى فضاء العلم والإيمان والتوحيد، والعدل، برحمة الله -سبحانه وتعالى-.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.