نطهر صيامنا (2)

  • 44

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد كان السلف الصالح أكثر الناس تطبيقًا لصيام الجوارح، وأكثرهم حرصًا عليه، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن طليق بن قيس قال: قال أبو ذر -رضي الله عنه-: "إذا صمت فَتَحَفَّظ ما استطعت، وكان طليق إذا كان يوم صومه دخل فلم يخرج إلا للصلاة"، وكان أبو هريرة -رضي الله عنه- وأصحابه إذا صاموا جلسوا في المسجد، قالوا: "نُطَهِّر صيامَنا".

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِذَا كَانَ يَوْمُ ‌صَوْمِ ‌أَحَدِكُمْ ‌فَلَا ‌يَرْفُثْ ‌وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ) (متفق عليه).

ولا يفهم من هذا أن غير الصوم يباح فيه ما ذكر، وإنما المراد أن المنع من ذلك يتأكد بالصوم؛ ذلك الصوم الذي يبعد العبد عن الأمراض القلبية: كالحقد والغل، والحسد والبغي، ويجنبه ارتكاب المعاصي، وقول الزور والكذب، والرياء والنفاق، والنميمة والغيبة، ويحصن بالتالي من سمعه ونظره ولسانه.

وفي هذا الزمن الذي يشهد ثورة معلوماتية متسارعة، أكدوا أهمية صوم الجوارح ودوره في نبذ الإشاعة وتزوير الحقائق، واغتيال الشخصية، والتنمر وخطاب الكراهية والتجريح، والتلميح المؤذي، والتعرض لأعراض الناس وإفشاء أسرارهم، ونشر خصوصياتهم، وسرقة المعلومات وتبادلها لغايات سيئة؛ خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي، وعبر التطبيقات الذكية.

فقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ ‌حَقَّ ‌الحَيَاءِ). قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: (لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ ‌حَقَّ ‌الحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرِ المَوْتَ وَالبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ ‌حَقَّ ‌الحَيَاءِ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).

وقد جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث طرفًا من الجوارح التي يؤمر المسلم بصيانتها، فدخل في الرأس وما وعى، ما جمعه من الحواس الظاهرة من السمع والبصر واللسان حتى لا يستعملها إلا فيما يحل، ودخل في البطن وما حوى حفظ القلب عن الإصرار على المحرمات من الشرك والحقد والحسد، ونحو ذلك، وقد جمع الله ذلك كله في قوله: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا) (الإسراء:36).

كما دخل في حفظ البطن حفظه من دخول الحرام فيه أكلًا أو شربًا، وحفظ الفرج، وقد مدح الله المؤمنين بقوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) (المؤمنون: 5).

فقد قال النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-: (أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟) قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: (إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلا يَرْفُثْ وَلا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ) (متفق عليه).  

فالعبد إذا صام ثلاثين يومًا وصامت جوارحه عن كل المعاصي، وصام قلبه عما سوى الله -عز وجل-، خرج من شهر الصيام إنسانًا آخر بكل ما لهذه الكلمة من معنى؛ بقيم وأخلاق فاضلة، حتى يقول كل من خالطه من الناس بعد الصيام: والله ما كان فلان هكذا، ما لهذا الحلم الذي يتمتع به؟ ما لهذه الرحمة؟ ما لهذا اللطف الذي هو فيه؟!

هذا هو الصيام، مدرسة خلقية.

فلماذا كان الصوم سببًا لصوم الجوارح واستقامتها؟

لأن الصوم عبادة تزكو النفوس بها، وتتسامى الأرواح بسببها من حضيض البهيمية، ومَن سمت روحه وطهرت نفسه لم تأنس بمعصية الله، فالصائم يعلم أنه ترك ما أحل الله -تعالى- تقربًا إليه؛ فكيف يترك ما أحل الله ويقع فيما حرمه عليه؟!

وبالجملة: فإن المرء مأمور حيال أعضائه بأمرين، ومكلف فيها بتكليفين: كفها عما حرم الله، وذاك تصويمها، وطاعته بها.

أسأل الله أن يحفظ جوارحنا، ويسلمنا من كل سوء، ويعصمنا من الزيغ والزلل.

والحمد لله رب العالمين.