الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (159) دعوة غيَّرت وجه الأرض (6)

  • 34

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41).

الفائدة السادسة:

رحل إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- إلى الشام، وحين سار خلف الأكمة حيث لا يرونه توجَّه إلى الله بهذا الدعاء: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ)، فإنما كانت هذه الرحلة وهذه الهجرة لأجل إقامة الصلاة في هذه البقعة، ويتوسل إلى الله بإظهار الفقر والحاجة: (بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ)، ويدعو الله بدعوة عجيبة الأثر عجيبة الشأن: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)، فهذه قلوب الملايين من المسلمين تهوي إلى هذه البقعة، وإلى مَن بقي بها من ذرية إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-.

دعوة غيرت وجه الحياة... !

لذا نقول: كيف تكوَّنت هذه البلدة؟!

وكيف صارت بلدًا آمنًا حرامًا؟!

صارت كذلك بدعوة!

فتأمل هذه المسألة جيدًا؛ لتعرف أثر الدعاء.

ودعوة نوح -عليه الصلاة والسلام-: (رَبِّ ‌لَا ‌تَذَرْ ‌عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) (نوح: 26)، غيَّرت وجه الحياة على ظهر الأرض؛ فكم من الدعوات تغير وجه الحياة، وكم من الدعوات تذهب بلا أثر، وربما كان أثرها في صاحبها فقط؛ على حسب قوة الإيمان، والقرب من الله القوي العزيز الحكيم القدير الذي يملك كل شيء، له ملك السماوات والأرض ومَن فيهن، مالك الملك.

وهنا يبرز سؤال: لماذا ندعو كثيرًا ولا نرى أثرًا، وربما نجد الأثر بعد حين، قد يطول أحيانًا وقد يجد البعض أثرًا وقد لا يجد؛ كل هذا حسب قوة الدعاء، هناك دعوات تتزلزل لها الأرض والسماوات، وهناك دعوات تُجَاب من ساعتها، وهناك دعوات يؤجل الله إجابتها، والبعض قد يؤجل إلى يوم القيامة بما شاء -سبحانه-، والله أمر المؤمنين بالدعاء ووعدهم بالإجابة، وهو لا يخلف الميعاد: (‌وَقَالَ ‌رَبُّكُمُ ‌ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر: 60).

فإذا أردنا أن تتغير الحياة في عالمنا؛ فلا بد أن يعود الناس إلى التوحيد، وإذا كنا نريد أن يقوي الله أهل الإسلام على أعدائهم، وأن ينصر الله المسلمين في المشارق والمغارب، وأن يكف أيدي الظالمين عنهم، وأن يرفع تسلط العدو عن أرضهم وبلادهم وأبدانهم وأولادهم، وحرماتهم ومقدساتهم؛ فلا بد أن نعمر القلوب أولًا بالقرب من الله، وكثرة ذكره، فالأذكار التي تذكر المؤمن في مواطن الذكر لها أثرها العجيب إذا استحضر الإنسان معانيها، واقترب من الله بها؛ فهذه بالتأكيد تغير من الإنسان، وتغير من المجتمع، وتغير من وجه العالم بأسره!

دعا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، فصارت أفئدة الخلق تهوي في كل زمان؛ ليس فقط إلى ذريته المباشرة؛ إسماعيل -عليه السلام-، بل إلى كل مَن كان مِن نسله؛ هوت القلوب وأحبت هذه البقعة مستعدة أن تنفق الغالي والثمين حتى تصل إلى هذه البقعة لتقضي فيها لحظات تظل حية في القلوب لتشتاق إلى العودة مرة أخرى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ ‌وَأَمْنًا) (البقرة: 125)، لا يرى أحد أنه قد قضى من البيت وطرًا؛ لأنه بيت مبارك أول بيت وضع في الأرض لعبادة الله: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا ‌وَهُدًى ‌لِلْعَالَمِينَ) (آل عمران: 96)، نعم والله! إن وجود هذه البقعة الصخرية في مكة التي لا يمكن أن ينبت فيها نبات؛ تراها جبالًا، صخورًا صماء من كلِّ جانب، ومع ذلك تعج بالحياة بهذه الطريقة العجيبة، وتأتي القلوب إليها والأبدان من كل مكان بقدرة الله، (‌فِيهِ ‌آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ) (آل عمران: 97)، ومن الآيات البينات زمزم التي نبعت على يد إسماعيل عليه الصلاة والسلام

رضيت هاجر بالله -عز وجل- مدبِّرًا معينًا، حافظًا وكيلًا، وقالت: "إذًا لا يضيعنا"، وجعلت تأكل من جراب التمر وتشرب من الماء حتى نفد الماء ونفد التمر، وجاع ابنها، والله يقدِّر البلاء ثم يأتي بالفرج؛ لا يأتي الفرج إلا بعد المحنة، وفي كل محنة منحة.

هكذا نبعت زمزم بعد المحنة التي تعرضت لها هاجر وابنها، يجوع إسماعيل وهو معد لأن يكون نبيًّا رسولًا، صادق الوعد، بانيًا مع أبيه بيت الله الحرام، ناشرًا للتوحيد في قومه وفي ذريته من بعده، أجيالاً متتابعة؛ يقدر الله عليه أن يجوع ويعطش طفلًا صغيرًا حتى يكاد يهلك، والأم تتألم وهي ترى ابنها يكاد يموت من العطش، ولا تدري سبيلاً لإنقاذه، وتنظر إلى أقرب جبل فتجد جبل الصفا، فتأخذ بالأسباب وتصعد عليه، تبحث لعلها أن تجد مَن يغيث، وتتجه يمينًا وشمالًا لا ترى أحدًا، فتنظر إلى أقرب جبل إلى جبل الصفا فتجد جبل المروة، فتتجه نحوه باحثة عمَّن يغيث، وفي بطن الوادي في مسافة هي الآن ممهدة ميسرة بين العلمين الأخضرين تسعى سعي الإنسان المجهود، وهي المسافة التي استطاعت أن تسعى فيها وإلا فالأرض الصخرية الجبلية تمنعها من السعي، حتى إذا صعدت مشت فلم تكن تستطيع أكثر من ذلك حتى أتت المروة فصعدت عليها.  

وفي هذه الشمس التي لا يحتملها أكثر الناس الآن، مع كثرة الشرب وكثرة المهيآت من أطعمة وأشربة، وتكييف؛ تحملت هاجر -عليها السلام- محنة لتكون منحة لنا جميعًا؛ في الوقوف في هذه الأماكن متبعين هذه السنة في السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط، كما سعت بينهما هاجر تبحث عن مخرج، لا تريد أن ترى ابنها وهو يموت، إلى أن كانت المرة السابعة بعد الإجهاد التام وبعد الجهد الكامل، وبعد أخذ الأسباب المتاحة أمامها التي ليس منها النجاة، وإنما النجدة من فضل الله، وإنما المنحة من عند الله، فتسمع صوتًا فتقول لنفسها: صه! تسكِّت نفسها، ثم قالت تخاطب مَن لا تدري أين هو؟ لكن تسمع صوته: قد أسمعت إن كان عندك غواث! فإذا هي بالمَلَك جبريل -عليه السلام- عند ابنها الذي يتلمظ جوعًا وعطشًا، ويكاد يهلك، فيضرب الأرض بعقبه أو بجناحه فتنبع زمزم، فتفرح بالماء فرحًا شديدًا، وحرصها؛ حرص الإنسان يدركها، فتقول لها: زمي زمي! كانت لا تجد قطرة ماء ثم وجدت عين نابعة! قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَرْحَمُ اللهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ، لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ الْمَاءِ لَكَانَتْ ‌عَيْنًا ‌مَعِينًا) (رواه البخاري).

لو لم تجمع الماء، لو لم تجعل له حوضًا؛ لكانت زمزم عينًا ظاهرة تجري نهرًا جاريًا، لا يحتاج إلى آلة رفع، ولكن حرص الإنسان دائمًا يُنقص عطاءه، ومع تعلقه بالأسباب ينقص رجاؤه، وبقدر نقص الرجاء ينقص العطاء، وكلما انقطعت الأسباب وعظم الرجاء عظم العطاء، فكانت زمزم المباركة التي قال عنها النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَاءُ ‌زَمْزَمَ، ‌لِمَا ‌شُرِبَ ‌لَهُ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني)، وقال: (‌إِنَّهَا ‌مُبَارَكَةٌ، إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ)، يمكن أن يستغني بها الإنسان عن الطعام فقد لبث أبو ذر -رضي الله عنه- أربعين يومًا وليلة لا طعام له ولا شراب في مكة إلا زمزم، ولما سأله النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَمَنْ كَانَ يُطْعِمُكَ؟) قَالَ: قُلْتُ: مَا كَانَ لِي طَعَامٌ إِلَّا مَاءُ زَمْزَمَ، فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي، وَمَا أَجِدُ عَلَى كَبِدِي سُخْفَةَ جُوعٍ. قَالَ: (‌إِنَّهَا ‌مُبَارَكَةٌ، إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ) (رواه مسلم).

وللحديث بقية -إن شاء الله-.