أيامًا معدودات

  • 317
أرشيفية

أيامًا معدودات

بقلم- نصر

رمضانالحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله, وبعد،جعل الله تعالى أعمار العباد مواسم، يربح فيها ممتثل المراسم، ويخسر المضيع الحسير والحاسم.

فهي موضوعة لبلوغ الأمل، ورفع الخلل, تزيد الأرباح لمن مع الله اتّجر، وتهلك الأرواح لمن انحرف عن الطريق وفجر, وبهذا العمر اليسير يشتري الخلود الدائم والبقاء الذي لا ينقطع في الجنان، ومن فرط في العمر وقع في الخسران, وقد امتن الله على عباده بمواسم الخيرات، فيها تضاعف الحسنات، وتُمحى السيئات، وتُرفع الدرجات، تتوجه فيها نفوس المؤمنين إلى مولاها، و"قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا" .

وإن رمضان زمانٌ مبارك لا يضاهيه زمان، جعل الله صيامه وقيامه سببا لمغفرة الذنوب والسيئات, ومضاعفة الأجور والترقي في الدرجات,كان صلى الله عليه وسلم يبشر المسلمين به فيقول: «قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك ، كتب الله عليكم صيامه، فيه تفتح أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم», وحببّه الله إليهم وخفّفه عليهم لئلا تستثقله النفوس, فقال: ?أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ?؛ تسهيلا على المكلف بأن هذه الأيام يحصرها العد, وإشارة إلى أنها قليلة سرعان ما تنتهي، وهكذا الأيام الغالية والمواسم الفاضلة سريعة الرحيل، وإنما يفوز فيه من كان مستعدًا له مستيقظا إليه.

فإذا أدرك الإنسان قصر وقت رمضان؛ علم أن مشقة الطاعة سرعان ما تذهب, وسيبقى الأجر وانشراح القلب وانفساح الصدر وفرحة العبد بطاعة الرب سبحانه, وكم من مشقة في طاعة مرت على الإنسان فذهب نصبها وتعبها وبقي أجرها عند الله.

وقد أمر الله تعالى باستباق الخيرات والمسارعة إليها, فقال: "فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ", وقال: "وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ", وقال: "سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ", ومدح الصالحين بأنهم كانوا: "يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ", وحث صلى الله عليه وسلم على المبادرة بالعمل قبل حلول الموانع, فقال: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سِتًّا، مَا تَنْتَظِرُونَ إلا غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ كِبَرًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوِ الدَّجَّالَ فَشَرٌّ مُنْتَظَرٌ، أَوِ السَّاعَةَ، وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ».

قال رجل لداود الطائي أوصني، فدمعت عيناه ثم قال: «يا أخي, إنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة حتى ينتهي ذلك إلى آخر سفرهم, فإن استطعت أن تقدم في كل يوم مرحلة زاداً لما بين يديها فافعل, فإن انقطاع السفر عن قريب، والأمر أعجل من ذلك, فتزود لسفرك، واقض ما أنت قاض من أمرك فكأنك بالأمر قد بغتك، وما أعلم أحداً أشد تضييعاً مني لذلك، ثم قام وتركني».

وعن الحسن قال: «يا ابن آدم اليوم ضيف، والضيف مرتحل يحمدك أو يذمك، وكذلك ليلتك», وقال بكر المزني: «ما من يوم أخرجه الله إلى أهل الدنيا إلا ينادي: ابن آدم اغتنمني لعله لا يوم لك بعدي، ولا ليلة إلا تنادي: ابن آدم اغتنمني لعله لا ليلة لك بعدي».

وقال عمر بن ذر: «اعملوا لأنفسكم رحمكم الله في هذا الليل وسواده, فإن المغبون من غبن خير الليل والنهار، والمحروم من حرم خيرهما، إنما جعلا سبيلا للمؤمنين إلى طاعة ربهم، ووبالا على الآخرين للغفلة عن أنفسهم، فأحيوا لله أنفسكم بذكره فإنما تحيا القلوب بذكر الله عز وجل, كم من قائم لله جل وعلا في هذا الليل قد اغتبط بقيامه في ظلمة حفرته, وكم من نائم في هذا الليل قد ندم على طول نومه عندما يرى من كرامة الله للعابدين غدا, فاغتنموا ممر الساعات والليالي والأيام رحمكم الله».

وقال بعض البلغاء: «كل امرئ يجري من عمره إلى غاية تنتهي إليها مدة أجله، وتنطوي عليها صحيفة عمله، فخذ من نفسك لنفسك، وقس يومك بأمسك، وكف عن سيئاتك، وزد في حسناتك قبل أن تستوفي مدة الأجل».

فمن حافظ على وقته ترقى في درجات الكمال، ومن أضاع وقته نزل في دركات الوبال، من لم يتقدم إلى الجنة بالأعمال الصالحة تأخر إلى النار بالأعمال السيئة، فخسر الدنيا والآخرة, والليل والنهار مطيتان يباعدانك من الدنيا ويقربانك من الآخرة.

قال ابن القيم: «إن العبد حين استقرت قدمه في هذه الدار فهو مسافر منها إلى ربه، ومدة سفره هي عمره، والأيام والليالي مراحل، فلا يزال يطويها حتى ينتهي السفر، ثم قال: والناس ينقسمون إلى قسمين: فمنهم من يطوي سفره بما يقربه إلى دار الشقاوة، ومنهم من يقربه إلى دار السلام».

وقال: «وقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم، ومادة معيشته الضنك في العذاب الأليم، وهو يمر مر السحاب فما كان من وقته لله وبالله فهو حياته وعمره، وغير ذلك ليس محسوباً من حياته وإن عاش فيه عيش البهائم، فإذا قطع وقته في الغفلة والسهو والأماني الباطلة وكان خير ما قطعه به النوم والبطالة فموت هذا خير له من حياته».

وقال الحسن البصري: «يا ابن آدم إنك أيام مجموعة، إذا ذهب يوم ذهب بعضك», وقال: «المبادرة, المبادرة فإنما هي الأنفاس؛ لو حبست انقطعت عنكم أعمالكم التي تتقربون بها إلى الله، رحم الله امرأً نظر إلى نفسه، وبكى على ذنوبه، ثم تلا: "إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا", وقال عمر بن عبد العزيز: «يا ابن آدم إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما, ويقول آخر: «من كان يومه كأمسه فهو مغبون».

قال ابن القيم: «فالمكارم منوطة بالمكاره، والسعادة لا يُعْبَرُ إليها إلا على جسر المشقة فلا تقطع مسافتها إلا في سفينة الجد والاجتهاد», وقد قيل: «من طلب الراحة ترك الراحة», وقال الأصفهاني: «وإن من تعود على الكسل ومال إلى الراحة فقد الراحة، فحب الهوينا يكسب التعب، وقيل: إن أردت ألا تتعب فاتعب لئلا تتعب».