رئيس ونظام وبلد في مأزق

  • 151

تكلمنا في المقالة السابقة عن الفارق بين المشروعية ذات المعايير الثانوية والشرعية ذات المعايير السياسية، وكيف أن مثل من عناصر الشرعية "التي يمكن الاستعلام عنها إذا أردنا التبسيط المحتمل بكلمة الرضائية" القدرة على توفير الحد الأدنى من المصالح لكل القوى الفاعلة في المجتمع، وهي مسألة ليست بالسهلة لأن مصطلح المصالح هنا تضر كل ما يراه صاحبه لازم لصلاح الحياة، سواء للمجتمع أو لذاته، وهذا يشمل الأمور المادية والمعنوية، وبالطبع هناك نوع من تضارب المصالح بين تحصيل المصالح للدولة ثم وضع صيغة يراها الجميع عادلة "مقبولة" لتقاسم هذه المصالح إذا فشل نظام الحكم في ذلك اهتز ركن من أركان شرعيته، وحدثت حالة من حالات التذمر يتناسب طرديا مع قوة وتأثير قطاعات المجتمع التي لا ترى حصتها تناسب قدرها واستحقاقاتها مادية كانت أو معنوية، فإذا كانت القطاعات المتذمرة أو في القطاعات الداعمة للحكم تبدأ محاولات التغيير السلمي أو الدموي بثورة أو انقلاب.

هذا يدفع الأنظمة لمحاولة استرضاء القطاعات إما بميزان العدل وتكافؤ الفرص والمشاركة في صنع القرار " سواء كون ذلك حقا سائدا أو كذبا مصدقا"، ومثال هذه النظم أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية أو استخدام المصالح المادية لكبح جماح المطالب المعنوية أو العكس، مثال ذلك الدول التي تملك فوائض مالية ترشي بها شعوبها ، لترك المطالب المعنوية "أطعم الفم تستحي العين"، وأيضا العكس يغذي نظام حكم المشاعر الشوفانية "الاستعلاء القومي"، أو يرفع شعارا يدغدغ مشاعر الجماهير ويسير عكسه تماما " ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد" ، "سنقهر إسرائيل ومن هم وراء إسرائيل"، "إقامة حكم ديمقراطي سليم".

إذن عندنا حالات ثلاثة

1-   القدرة على الجمع بين المصالح المادية والمعنوية بدرجة مرضية.

2-   تعويض العجز في أحدهما باستخدام الآخر، وهنا لابد أن يظهر في المعادلة لمنع بزوغ  التذمر زيادة جرعة القمع بقدر يكافئ الاستبدال.

3-   العجز عن الآليتين السابقتين، هنا لا يجد نظام الحكم بديلا عن القمع، وهنا تنشط كتبه "all size للقوانين اللي هي" وتغطي كتبه "إعلام ذمته كاوتش" العملية بغطاء جميل من الزيف.

4-   وهنا لابد أن يظهر بيت القصيد مصر، ماذا عن مصر؟ وهو سؤال طالما سألت عنه عند كل محاضرة أو لقاء أتحدث فيه عن قواعد علم وفن السياسة. وطالما كانت آخر إجابة ليس عن بخل أو عجز، وإنما غرض ألا أعطى سامي سمكة، إنما أهدي له "سنارة" يستغني بها عن أمثالي، ويمتلك أدوات يطورها فيصبح عندنا جيل جديد يجمع بين فتوة الشباب وخبرة الشيوخ، نريد قادة في سن أسامة بن زيد، ودعامات في سن علي بن طالب عندما أسلم.

ونعود لمصر أي البدائل الثلاث هي الاختيار؟ بالقطع سيكون تحقيق الخيار الأول عن حق وليس عن زيف هو اختيار الرئيس القادم والبرلمان المنشود وكل قوى المجتمع وعموم أفراد الشعب وهل يختار أحد العطش بديلا عن الري، والحزن بديلا عن السعادة؟! إذن نعيد صياغة السؤال، ما هي فرص تحقق أي من البدائل الثلاثة؟ نقول مرة أخرى: المصالح والمطالب التي تحتاج رضا وإشباع نوعان (مادية ومعنوية)، المادية تفصيلاتها يجمع عليها البشر من الصين شرقا حتى الأمريكتين غربا طعام .. مسكن .. خدمات .. سيارات .. إلخ.

أما المعنوية فهناك اتفاق في المفردات حرية ، وكرامة ، وعدالة، وعدالة اجتماعية، وسيادة القانون .. إلخ، ولكن الخلاف هو في الإطار الجامع والمقياس المحدد هل هو العلمانية أم الإسلام، والذي يزيد الطين بلة هو تحديد الصورة التي يرضاها أصحاب المنهجين عن منهجهم المختار، مثلا العلمانية المثالية هي الليبرالية أم الشيوعية أم النازية .. إلخ؟

والحمد لله ليس في مصر صراع أجناس كالحادث في أوكرانيا وباسك أسبانيا وتبت الصين وما تشابه؛ وإلا تعقد الأمر، والحمد لله أن الجهود الأوروبية الأمريكية في صنع مثل ذلك بمصر تحاول زرع البذرة، ولم تنبت بعد سواء في جنوب مصر أو محاولة زرع خلاف مذهبي إسلامي بدعوى حرية الاعتقاد، وشعب مصر بإذن الله يواجه الرفض بالرفض ، لكن ماذا عن المصالح المادية؟

الواقع مرعب وإذا كانت المصالح المعنوية يعبر عنها بالوصف فالمصالح المادية يعبر عنها بالأرقام، وهنا مكمن الصعوبة أن تتفق فيما يخرج من أرقام رسمية اقتصادية، ومازلت أتذكر وأنا شاب ذلك الوزير في عهد السادات عندما ناقشه البرلمان في الميزانية التي عرضها والأرقام توضح أن بها زيادة، لم يصدق النواب واضطر الوزير لاستخدام برهان حتى لا يشكك في أرقامه أحد فقال بالحرف " ورحمة أمي الميزانية فيها زيادة" ومن قبلها وأنا شاب استمع لأرقام طائرات العدو الساقطة عام 1967 "أحمد سعيد صوت العرب"، والآن تكون محظوظا لو حصلت على أقل من ثلاثة أرقام متضاربة للسؤال الواحد؛ لذا أجد نفسي آسفا تحت ضغط عقدة الخواجة .

مجلس العلاقات الخارجية CFR ينشر لـ ستيفن كوك بعنوان " أزمة الملاءة المالية فيمصر" وفيها 45% من السكان دخلهم اليومي أقل من 2 دولار،وعجز الموازنة 14% من الناتج المحلي، والتضخم 11،4%، والبطالة 13،4 %" أراها أنا أكثر، " دخل السياحة نصف ما كانت عليه في العام الماضي قبل 30 يونيو، والاحتياط النقدي الأجنبي يقترب من الحد الأدنى " تكاليف الطعام والوقود لمدة ثلاثة أشهر 15 مليار دولار"، الآن هو 17 مليار الدين الحكومي 89،2% من الناتج المحلي، وهي أرقام خطيرة وضعت مصر في تصنيف الدين -B، وحتى مع الدعم الخليجي هناك فجوة قدرها عشرة مليلرات دولار في تمويل العجز الحكومي، يلخص كريستوفر جارفيس من صندوق النقد الدولي الوضع بقوله: " المركز المالي للبلاد هش" .

هكذا أردُّ الكرة إلى ملعبك أخي القارئ، فعليك أنت الإجابة عن السؤال: ما البدائل أمام الرئيس القادم والنظام القادم ومصر؟