مضاد حيوي – Antibiotic

  • 189

الأجواء ملتهبة، ولا صوت يعلو على صوت الدموع والألم والأحزان، ولعله أمر طبيعي لجبلة المرأة ونفسيتها وطريقتها في التعامل مع مصائب الحياة، وهي الطريقة التي ربما لا تتغير باختلاف حجم المصيبة أو المدة الزمنية أو الأمور التي تترتب عليها.

وقفت تبكي أمام قبر، والموقف يتكرر كثيرًا، ولكن القلوب التي تشاهده بعين الرحمة قليلة، ولكن وجود رادار لرصد المتألمين نعمة بارزة عند الربانيين.

رأها - صلى الله عليه وسلم -، وكعادته – صلى الله عليه وسلم – في إلقاء دروس الواقعية والإيجابية، والمبادرة اللحظية للأمة، ذهب إليها مخاطبًا إياها بصورة مباشرة، قائلًا: «اتَّقِي اللهَ واصْبِرِي».

وفي هذه الكلمات القليلة منهجية واضحة مرتبة لإدارة كل أزمة وابتلاء، وهي تبنى على سؤالين:

1- كيف أتقي الله في هذا الموقف، في توكلي واستعانتي وأخذي للأسباب وبذلي لكامل الجهد؟

2- الهدي النبوي المرافق للعمل والتحرك، مع رضا القلب والاعتماد المطلق على كرم الرب – جل وعلا -.

التقوى والصبر في مواجهة نوائب الدهر، منهجية لإدارة الأزمة، فقال لها – صلى الله عليه وسلم – هذه المنهجية في سطرٍ واحد.

وإذا بالمرأة تجاوبه وهي لا تعرفه – صلى الله عليه وسلم -، فلم يكن في سيره وملبسه وتحركه ما يلفت النظر، أو يأسر الانتباه، وهو أفضل من أشرقت عليه الشمس، وأفضل من مشى على الأرض – صلى الله عليه وسلم - فأجابته قائلة: « إِلَيْكَ عَنِّي فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي».

والله ثم تالله لقد أصيب – صلى الله عليه وسلم – بما لم يصب به أحد، ورأى من الآلام والمعاناة ما لم يره أحد – صلى الله عليه وسلم -. وقد رأى أكثر منها بكثير، ولكن من كمال المروءة عند القيادات عدم الإعلان عن جراحتهم، فهم يؤلمهم أن يكونوا مادة حديث الناس... لا يريدون لشيء أن يسرق الأضواء من المبادئ والقيم التي يحملونها...

 ثم.... أراك -أخي القارئ- وأتأمل في ملامح وجهك الكريمة، وأنت تنتظر بقية القصة داخل هذا المشهد في المقابر...

ولكن هذا المشهد قد انتهى، ولم يزد عليه - صلى الله عليه وسلم- بحرف واحد. قال الشيخ العثيمين رحمه الله: «لم ينتقم لنفسه، ولم يضربها، ولم يفهمها بالقوة» ا.هـ.

تركها فقط...

والجميل في الأمر أنه لم يعنفها أحد، ولم يؤذها أحد، أو يرد عليها. ولكن فقط أخبروها أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هو من قال لها ذلك، وتركوا لها حرية الاختيار، فلم يقل لها أحد مرة أخرى اتقي الله، فقط أعلموها من المتكلم، فذهبت إليه، يقول راوي الحديث، سيدنا أنس – رضي الله عنه -: «فلم تجد بوابين، فقالت: لم أعرفك...».

ويستمر نهر الرحمة والتعاطف، وحسن الخلق، واللطف بالناس في التدفق...

فلم يحدثها عن الموقف السابق الذي حدث من ساعة، وإنما حدثها عن أصل المشكلة، فقال لها في هدوء: «إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى».

وكأنه يقول – صلى الله عليه وسلم -: كنت أود أن تكوني من أهل الصبر عند الصدمة الأولى، ولذا حدثتك وقلت لكِ اتقي الله واصبري. لم يقل لها كيف لا تعرفين، ولم يقل لها هذا ليس برد، ولم يقل لها أَلَمْ تقرأي القرآن يا امرأة، ألم تسمعي عن آيات الصبر ولو مرة واحدة؟

لا... لم يقل ذلك، وحاشاه بأبي هو وأمي – صلى الله عليه وسلم -، فقد أخذها لأصل المشكلة، لم يجعلها تضيع طاقة الحديث وأصله في فروع وتفريعات...

ويا له من درس، ويا له من موقف لا بد أن يحفزنا في زمننا وعالمنا ومواقفنا، فأهل الجروح كثير، نقابلهم ليل نهار، كل بمصاب مختلف ومتنوع.

نعم يحتاج إلى توجيه، ولكن في الوقت نفسه يحتاج لرحمة وتعاطف عند وجود رد فعل منه، يحتاج إلى من يتحمله حين يتوجه بكلمات تجرح من أمامه، حين يقول لأحد إليك عني، لا يرد عليه الإساءة بالإساءة، ولا يضع على الجرح ملحًا، وإنما يقابله إما بكلماتٍ كالمطهر الطبي، أو سكوت كالمضاد الحيوي، يساعد على التئام الجرح، لا على زيادته.

الانتقام للنفس لم يكن خلقًا نبويا أبدًا، ولو لمرة عابرة، كانت منهجية المضاد الحيوي في التعامل مع كل مجروح هي المنهجية المعتمدة الثابتة.

وإليك بعض القواعد النفسية لــ جون ماكسويل، في كتابه الفوز مع الناس، أنقلها لك باختصار. وهذه القواعد حقائق نفسية ملحوظة ومشاهدة وهي:

1- هناك العديد من الأشخاص المتألمين...

معلومة قد تبدو بدهية.. ولكن تنزيلها للتعامل في الواقع نقطة محورية، ويذكر نتيجة بحث علمي مفاده أن هناك شخصًا بين كل أربعة أمريكيين يعاني من خلل في التوازن.

وتأمل هذا في أمريكا، فماذا عن بلادنا؟ وصاحب كل ذي عينين يلحظ كثرة أصحاب الجراح في مجتمعاتنا العربية، والأمر لا يحتاج إلى كثير أبحاث ولا أطباء نفسيين إلا لمن عاش لنفسه، أو عزل نفسه في جزيرة شعورية، تسمى خاصته أو مصلحته، والواقع المشهود أن أصحاب الجروح كثر.

2- هؤلاء الأشخاص المتألمون كثيرًا ما يجرحون الآخرين.

كتب الشاعر الألماني هيرمان هيس يقول: «إذا كنت تكره شخصًا ما؛ فإنك تكره فيه شيئًا تجده في نفسك، فما هو ليس بجزء من أنفسنا لا يمكن أن يزعجنا».

تكرما أقرأ الجملة مرة أخرى.. لتأملها!

ثم يعلق ماكسويل قائلًا: «عندما ينفجر الأشخاص المتألمون غضبًا؛ يكون ذلك استجابة لما يحدث بداخلهم أكثر منه استجابة لما يحدث حولهم». ا.هـ

وهذا واقع مشهود أيضًا، فالكلام المر الذي تسمعه من المجروح إنما يعبر عما بداخله، لا على علاقته بالمتحدث أمامه.

3- هؤلاء الأشخاص المتألمون كثيرًا ما يجرحهم الآخرون.

فهو لا يتألم لكلمتك، وإنما لأن الكلمة لمست الجرح الموجع الذي تركه هو من غير خياطة أو تنظيف، (وبالطبع هذه مشكلة ولكن ليس مجال مناقشتها الآن فالخطاب لمن يتعامل مع المجروحين لا مع المجروحين ذاتهم ).

4- هؤلاء المتألمون كثيرًا ما يجرحون أنفسهم.

فالذي يصمم أن يمسك السيف بالمقلوب بعيدًا عن مقبضه؛ نعم يجرح الذي أمامه، ولكن يَجرح نفسه أولًا، والشخص المجروح الذي يتعامل مع من حوله بغير عفو كماسك للسيف من أعلاه.

يقول جورج هربرت: «الإنسان الذي لا يستطيع الصفح عن الآخرين يحطم الجسر الذي لا بد أن يعبر هو نفسه فوقه».

وهذه النقاط التي ذكرها بمثابة رفع لواقع المجروحين في الأرض في نقاط محددة...

والجميل في موقف النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه لخص لنا التعامل مع هؤلاء المجروحين من خلال تعامله – صلى الله عليه وسلم –  مع المرأة المجروحة أمام قبر فقيدها، من خلال ست منهجيات نخرج بها من الموقف المبارك الملهم :

1- لا تشخصن الأمور:

فالمرأة لم تقصد شخص النبي – صلى الله عليه وسلم –فلا تُحَمّل الأمور محملا شخصيا حين يواجهك أحدهم بكلمات.

2- دعك من كلام المجروح، وركز على مشكلته:

وهذا ظاهر في تعامله – صلى الله عليه وسلم – فسلوك المرأة وردها ليسا أصلى المشكلة الآن، وإنما الصبر هو المقصود من النصح، فلا تنظر للشخص، ولكن انظر للمشكلة.

3- لا تزد الجرح سوءًا ونزيفًا:

فحين أجابك وكأنه يشير لك على جرحه، وهو لا يشعر بأن الجرح يراه الجميع وهو في مكان ظاهر، فلا تضغط أنت على الجرح بكلامك، وإن تكلمت فاجعلها مضادا حيويا يساهم في التئام الجرح لا إيلامه.

ارحمه بالله.. فالراحمون يرحمهم الرحمن... نرحم من في الأرض ليرحمنا من في السماء.

4- قلل كلامك ولا تجعل الموقف حديث الناس، وحدث اليوم، وموضوع الأسبوع، وتركيز كل المواقع الاجتماعية، أعطِ الأمور حجمها.

امرأة في لحظة غضب قالت كذا... قضية الأمر بعد معالجة الموقف..

ومن جميل السلوك في مجتمع الصحابة أن المرأة لم تذكر باسمها.. المهم الفائدة والدرس...

حين تعطى أمة الأمور حجمها الطبيعى المناسب.. فهذا دليل نضج واستفادة من التجارب.

5- بعض المواقف لا تحتاج إلى فهمٍ بقدر ما تحتاج إلى مشاعر نبيلة، فيا لنبله – صلى الله عليه وسلم – في تعامله مع الموقف.. لا تحتاج في كثير من المواقف إلى شروحات وتوضيحات وتوصيات... فقط تحتاج إلى شعور نبيل ورصيد نيات.

6- أنت تنصح لله، لا ليستجاب لك، أو ليقام لك حفلات التكريم، فقل كلماتك بمنهجية المضاد الحيوي، والأجر على الله.

وأخيرًا، أقول لكل متألم ومجروح: «أخي أعانك الله ولا تبتئس، فالله معك، ولك العبرة في مريم ابنة عمران، فحين تألمت قالت: «يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا»، ثم خرج من بطن هذا الألم نبيٌ من أولي العزم من الرسل، مباركًا أينما كان، فبعض مدن الخير والبركة لا ندخلها إلا من بوابة جرح أو ألم..

جرحك إن لم تداوه قتلك... وفشلك إن لم تدفنه دفنك... وإكرام الفشل دفنه.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أهل السنة أعلم الناس بالحق وأرحم الناس بالخلق.. أرحم الناس بالخلق يا بشر.

ولا تنس المضاد الحيوي في التعامل مع جرحك وجروح البشر، لن تخرق السفينة وسنغرس الفسيلة بإذن الله.