الإسلام دين رحمة و هداية (1)

  • 157

إنما بُعث النبي صلى الله عليه و سلم رحمة للعالمين؛ قال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وهذه الرحمة هي للمؤمن، والمنافق، والكافر.


 فإن قيل: فأي رحمة حصلت لمن كفر به؟ فالجواب: ما رواه أبو جعفر بن جرير عن ابن عباس في قوله: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) قال: من آمن بالله واليوم الآخر، كتب له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسوله، عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف.
وأما من السنة : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَ : إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً. رواه مسلم .


قال القاضي عياض في "الشفا": "للمؤمن رحمة بالهداية، وللمنافق رحمة بالأمان من القتل، ورحمة للكافرين بتأخير العذاب".


وقال أبو نعيم في "دلائل النبوة": فأمن أعداؤه من العذاب مدة حياته عليه السلام فيهم، وذلك قوله تعالى: "وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ"، فلم يعذبهم مع استعجالهم إياه تحقيقًا لما نعته به.


و من المظاهر العظيمة لرحمته بهم: حرصه على هدايتهم؛ فلاشك أن من أعظم الرحمة بالناس أن يسعى المرء إلى إنقاذهم من عذاب الله سبحانه وتعالى، فإن كان المرء الذي يسعى إلى أن ينقذ فقيرًا من جوع ومسغبة، أو ينقذ يتيمًا من بؤس اليتم؛ فإنه أولى أن ينقذه من نار وقودها الناس والحجارة، وأن يدله على جنة عرضها السموات والأرض، جنة ينسى حين يدخلها، ويغمس فيها غمسة واحدة كل شقاء الدنيا وبؤسها.


و قد كادت تذهب نفسه صلى الله عليه و سلم عليهم حسرات من شدة حرصه على هدايتة الناس وشفقته عليهم من عذاب الله، وقد اطلع الله عز وجل على حرص نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم لهداية الناس، وما يبذله مما هو فوق طاقته، حتى ليكاد يهلك نفسه بسبب عدم استجابة من دعاهم إلى دينه، فما كان منه سبحانه وتعالى إلا أن أمر نبيه بأن يخفف عن نفسه ذلك الحزن من عدم استجابة بعض الناس له؛ فقال تعالى في كتابه الكريم: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)، وقال تعالى أيضًا: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، وقال تعالى: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ).


ومن المواقف العظيمة في بيان حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هداية الناس ودخولهم في الإسلام، وصبره في ذلك على كل ما يلحقه من الأذى، وصنوف البلاء، ما رواه البخاري في صحيحه عن عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ: لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ؛ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رُدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، قَالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا.


فهذا الحديث يدل دلالة واضحة على حرصه صلى الله عليه وسلم على هدايتهم و رحمتهم؛ فلم يلتفت إلى حقه، وإنما كان كل همه أن يعبدوا الله لا يشركوا به شيئًا وعلى هديه و سنته أتى الصحابة ومن بعدهم ومن اقتفى أثرهم إلى يوم الدين؛ فأهل السنة والجماعة أعرف الناس بالحق، وأرحم الناس بالخلق، كما يقول شيخ الاسلام ابن تيمية فهذا أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه كان يقول الحق، ويرحم الخلق؛ فقد ذكر الإمام الشاطبي أنه لما رأى سبعين رأسًا من الخوارج، وقد جُزَّت رؤوسهم، ونصبت على درج دمشق، فقال الحق: "سبحان الله! ما يصنع الشيطان ببني آدم، كلاب جهنم، شر قتلى تحت ظل السماء"، ثم بكى قائلًا: "بكيت رحمة لهم حين رأيتهم كانوا من أهل الإسلام ".


الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - إمام أهل السنة يقول كلمة الحق، ويثبت على ذلك، وذلك في فتنة القول بخلق القرآن، فكان يقول بكل يقين: القرآن كلام الله غير مخلوق، ويصبر على ما أصابه من أنواع الإيذاء والفتنة من قِبَل رؤوس المعتزلة – آنذاك -، ومن تبعهم من الخلفاء كالمأمون، والمعتصم، والواثق، "ولما جاءه أحدهم وهو في السجن، فقال له: يا أبا عبد الله، عليك رجال، ولك صبيان، وأنت معذور -كأنه يسهل عليه الإجابة في القول بخلق القرآن-، فقال له الإمام أحمد: "إن كان هذا عقلك فقد استرحت!!".. يقول الذهبي - رحمه الله - في محنة الإمام أحمد: "الصدع بالحق عظيم، يحتاج إلى قوة وإخلاص، فالمخلص بلا قوة يعجز عن القيام به، والقوي بلا إخلاص يخذل، فمن قام بهما كاملًا، فهو صدّيق، ومن ضَعُفَ، فلا أقل من التألم والإنكار بالقلب، وليس وراء ذلك إيمان، فلا قوة إلا بالله". لقد كان الإمام أحمد بن حنبل رجلًا لَيِّنًا، لكن لما رأى الناس يجيبون ويعرضون عن الحق، عندئذٍ ذهب ذلك اللين، وانتفخت أوداجه، واحمرت عيناه، وذهب ذلك اللين. ومع ما تعرض له الإمام أحمد من البطش والسجن من قبل أولئك الخلفاء إلا أنه يقول: "كل من ذكرني في حل إلا مبتدع، وقد جعلت أبا إسحاق - يعني المعتصم - في حل، ورأيت الله تعالى يقول: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ)، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بالعفو في قصة مسطح، وقال: "العفو أفضل، وما ينفعك أن يعذب أخوك المسلم في سبيلك؟".