عاجل

قسوة القلب... أسباب وآثار وعلاج

  • 316

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فكم يمر على الإنسان من مواقف وأحوال، ومواسم للخير والطاعات، ويسمع الكثير من الآيات والمواعظ، والنصح والإرشاد باستثمار الأزمان الفاضلة والاجتهاد فيها، والاستعداد للقاء الله -تعالى- بالأعمال الصالحة، وهو مع ذلك لا يجد في نفسه استجابة، ولا يشعر بهمة، ولا إقبال على قبول هذا النصح والعمل به!

والسبب في ذلك: مرض خطير مِن أخطر الأمراض التي تصيب الإنسان؛ ألا وهو: "قسوة القلب"؛ ذلك المرض الذي يصرف الإنسان عن تذوق لذة العبادة فضلًا عن الثبات عليها، ويصرفه عن الاستجابة لما فيه الخير له ولغيره، بل قد يدفعه هذا المرض إلى استحسان القبيح واستقباح الحسن، وإلى سفك الدماء والعدوان على الحقوق، على تفاوت بين الناس في ذلك، وقد يجعل قلبَ العبد كالحجارة في الغلظة والشدة أو أشد.

والقلب إذا قسا تجرأ الإنسان على الميل بالشريعة مع هواه، وتهاون في الطاعات واستثقلها، وضعفت الغيرة والحمية لدين الله -تعالى-، وعظمت الدنيا في عينيه فأقبل عليها، وأهمل حمل رسالة الإسلام للناس.

وقد ذَمَّ الله -تعالى- اليهود وحذَّر من طريقهم وسماتهم، فقال -عز وجل-: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) (البقرة:74)، وإنما شبهها بالحجارة مع أن الحديد أصلب وأقوى مِن الحجارة؛ لأن الحديد قابل للين والتشكل والتغير إذا أدخل في النار، وقد ألان الله لداود الحديد، وأما الحجارة فلا تلين قط!

ثم فضل الله الحجارة على تلك القلوب القاسية، فقال: (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون).

فهذه ثلاث صور للحجارة فُضِّلت بها على أصحاب القلوب القاسية؛ فإن مِن الحجارة ما يخرج منه العطاء، أما قلوب هؤلاء فلا تستجيب لأي مؤثرٍ يستثير الرحمة!

قال قتادة بن دعامة السدوسي -رحمه الله-: "عَذَر الله الحجارة، ولم يعذر شقيّ بني آدم!".

وقال مالك بن دينار -رحمه الله-: "ما ضُرِب عبدٌ بعقوبةٍ أعظم مِن قسوة قلب، وما غضب الله على قوم إلا نزع الرحمة من قلوبهم".

وقال حذيفة المرعشي -رحمه الله-: "ما أُصِيب أحدٌ بمصيبةٍ أعظم من قَسَاوة قلبه" (صفة الصفوة).

مِن أسباب قسوة القلب:

1- طول الأمد: وهو مِن أخطر وأعظم أسباب قسوة القلب، بل هو السبب الأول في حصول قسوة القلب بكلِّ صورها وأشكالها، قال الله -سبحانه وتعالى-: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:16)، فبيَّن الله -عز وجل- السبب الذي لأجله قَسَت قلوب أهل الكتاب، وهو: البُعد عن الوحي وعن ذكر الله وما أنزله -تبارك وتعالى- من الحق على أنبيائه ورسله الكرام -عليهم صلوات الله وسلامه-.

وأي شخص -أو أمة- يطول عليه الأمد، وهو تتقلب في بحبوحة النعم على فسق وفجور، ومعصية ونسيان لربه، يقسو قلبه فلا يخشع لذكر الله وما نزل من الحق، وبهذا يبتعد عن مهابط الرحمة فيقسو القلب أكثر فأكثر.

2- فعل المعاصي والسيئات والمجاهرة بها: قال الله -تعالى-: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (المطففين: 14)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ، عَمِلْتُ البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ) (متفق عليه). فالعبد إذا جاهر بمعصية الله واستخف بعقوبته، عاقبه الله -تعالى- بفساد قلبه وقسوته، أما المستحيي الخائف من الله -عز وجل-؛ فهو قريب من التوبة والرجوع إلى الله.

3- اتباع الهوى وعدم قبول الحق والعمل به: فإن العبد إذا تبيَّن له الحق فلم يعمل به واتبع هواه، عوقب بمزيدٍ مِن الانحراف ومرض القلب، كما قال الله -عز وجل-: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) (البقرة:10)، وقال -تعالى-: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) (الصف:5)، وقال -تعالى-: (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) (التوبة:127)، فتزاد قسوة قلبه، ويزداد بُعدًا عن الله -تبارك وتعالى-.

مِن آثار قسوة القلب:

1- اللعن والبُعد عن رحمة الله -تعالى-: قال الله -عز وجل-: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) (المائدة:13).

2- الويل والشقاء في الدنيا والآخرة: قال الله -تعالى-: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) (الزمر:22)، وقال -تعالى-: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا . قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى . وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) (طه:124-127)، فصاحب القلب القاسي الغافل عن ذكر الله -تعالى- وعبوديته، له نصيب من هذا العيش الضنك والعذاب الشديد.

3- الحرمان من التضرع إلى الله -عز وجل-: قال الله -تعالى-: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَاسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) (الأنعام:43).

4- عدم الثبات عند الفتن وأمام الشبهات والشهوات: قال الله -عز وجل-: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) (الحج:53).

علاج قسوة القلب:

1- الإكثار من ذكر الله -تعالى- والمداومة عليه: قال الله -تبارك وتعالى-: (أَلَمْ يَانِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:16)، وقال -تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد:28). وقد شكا رجلٌ إلى الحسن -رحمه الله- قسوة قلبه، فقال له: "أَدْنِهِ مِنَ الذِّكْرِ".

2- تلاوة القرآن الكريم بتدبر وخشوع وحضور قلب: قال الله -تعالى-: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) (الزمر:23)، وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (يونس:57)، فمَن أراد شفاءً سريعًا، شافيًا كافيًا؛ فليقبل على تلاوة القرآن بتدبر وفهم؛ فهذا أنفع وأنجع الأدوية على الإطلاق؛ فإن القرآن الكريم شفاء لكل الدوامات التي تدور في الصدور مِن: الشهوات، والشبهات، والحجب الغليظة التي تحول وتفصل بين العبد وبين العمل بمرضاة الله والقرب منه.

3- الدعاء والتضرع إلى الله -تعالى- أن يذهب قسوة القلب: فقد كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالْهَرَمِ، وَالْقَسْوَةِ وَالْغَفْلَةِ... ) (أخرجه ابن حبان، وصححه الألباني).

4- إطعام المسكين ومسح رأس اليتيم: فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أَنَّ رَجُلًا، شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَسْوَةَ قَلْبِهِ، فَقَالَ لَهُ: (إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ؛ فَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ، وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ) (رواه أحمد، وحسنه الألباني).

نسأل الله -عز وجل- أن يطهِّر قلوبنا من القسوة، وأن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء همومنا وأحزاننا.

وصلى الله على محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم.