إشارة على الطريق (2)

  • 59

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فأضع بين يديك -أخي القارئ- كلامًا لأحد مَن تَكَثَّر بهم المخالفون لمنهج السلف وطريقتهم، وهو: "الرازي"، وكلامًا "لابن تيمية" في مسألةٍ واحدةٍ فقط؛ يتبيَّن لك مِن خلال كلام كلٍّ منهما منزلة الوحي الشريف عند كلٍّ من الرجلين.

قال الرازي -رحمه الله وعفا عنه-: "السؤال الثالث: كل ما يتوقف صحة كون القرآن حجة على صحته لم يكن القرآن هدى فيه، فإذن استحال كون القرآن هدى في معرفة ذات الله -تعالى- وصفاته، وفي معرفة النبوة، ولا شك أن هذه المطالب أشرف المطالب، فإذا لم يكن القرآن هدى فيها؛ فكيف جعله الله -تعالى- هدى على الإطلاق؟ الجواب: ليس مِن شرط كونه هدى أن يكون هدى في كل شيء، بل يكفي فيه أن يكون هدى في بعض الأشياء، وذلك بأن يكون هدى في تعريف الشرائع، أو يكون هدى في تأكيد ما في العقول، وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن المطلق لا يقتضي العموم، فإن الله -تعالى- وصفه بكونه هدى من غير تقييد في اللفظ، مع أنه يستحيل أن يكون هدى في إثبات الصانع وصفاته وإثبات النبوة، فثبت أن المطلق لا يفيد العموم) (تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير).

وقال في آية أخرى: "وتدل على فساد قول الحشوية الذين يقولون: نستفيد معرفة الله والدين من الكتاب والسنة" (تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير).

هذه جريمتهم وتلك عيبتهم في نظره؛ أن قالوا: نستفيد معرفة الله والدين من الكتاب والسنة!

ويتعجب الإنسان من صدور تلك الكلمات الفظيعة الشنيعة منه -ونحن نعذره فيها بالتأويل، ونرجو له أن يكون تاب منها قبل موته، لكن يزداد العجب من تكراره لما على شاكلتها في مواضع عدة، بل ووضعه الحواجز والموانع والعوارض الكثيرة بين الناس وبين الاهتداء بالوحي.

ودع عنك محاولات القوم لتكلف تأويل تلك النقول عنه فهي أكثر من أن يمكن تأويلها، ونحن لا يعنينا الشخص -غفر الله لنا وله- بل الذي يعنينا هو بيان هذا المنهج الجافي في التعامل مع الوحيين والذي يتم التأصيل له والتأكيد عليه بطرق شتى وإن تفاوتت وتباينت العبارات في صراحتها وخطورتها!

وإن كان الشخص له عبارات أخرى جيدة مع ما فيها من تناقض يدل على حيرة واضطراب، وعمومًا فأهل السنة -بحمد الله- دائمًا ما يحرصون على النقل عن خصومهم ما عندهم من الخير مما فيه موافقة للحق وتعظيم للوحي، راجين أن يكون قول الحق هو آخر الأمرين منهم؛ فأهل الحق يحبون الخير لكل أحد.

والآن قارن بين تلك العبارات السابقة وبين تلك الكلمات لابن تيمية رحمه الله -على سبيل المثال لا الحصر- حيث قال: "فعامة المطالب الإلهية قد دَلَّ القرآن عليها بالأدلة العقلية والبراهين اليقينية... " (الصفدية).

وقال: "في القرآن كثير مما يبيِّن الله فيه: أن كتابه مبين للدين كله، موضح لسبيل الهدى، كاف لمن اتبعه، لا يحتاج معه إلى غيره، يجب اتباعه دون اتباع غيره من السبل" (درء تعارض العقل والنقل).

وقال: "وما أحسن ما وصف الله به كتابه بقوله: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء: 9)، فأقوم الطرق إلى أشرف المطالب ما بعث الله به رسوله" (الرد على المنطقيين).

وقال: "فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات: أن الرسول جاء بالهدى ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم... فكان القرآن هو الإمام الذي يقتدى به؛ ولهذا لا يوجد في كلام أحد من السلف أنه عارض القرآن بعقل ورأي وقياس، ولا بذوق ووجد ومكاشفة..." (مجموع الفتاوى).

وقال: "لا ريب أن الله -تعالى- أنزل كتابه بيانًا للناس وهدى وشفاء، وقال -تعالى- فيه: (وَنَزَّلْنَا ‌عَلَيْكَ ‌الْكِتَابَ ‌تِبْيَانًا ‌لِكُلِّ ‌شَيْءٍ) (النحل: 89)، وقال: (‌وَلَكِنْ ‌تَصْدِيقَ ‌الَّذِي ‌بَيْنَ ‌يَدَيْهِ ‌وَتَفْصِيلَ ‌كُلِّ ‌شَيْءٍ) (يوسف: 111)، وقال: (‌إِنَّ ‌هَذَا ‌الْقُرْآنَ ‌يَهْدِي ‌لِلَّتِي ‌هِيَ ‌أَقْوَمُ) (الإسراء: 9)، وقال: (‌فَمَنِ ‌اتَّبَعَ ‌هُدَايَ ‌فَلَا ‌يَضِلُّ ‌وَلَا ‌يَشْقَى) (طه: 123)، وقال: (‌اتَّبِعُوا ‌مَا ‌أُنْزِلَ ‌إِلَيْكُمْ ‌مِنْ ‌رَبِّكُمْ) (الأعراف: 3)، وقال -تعالى-: (﴿‌وَمَا ‌كَانَ ‌اللَّهُ ‌لِيُضِلَّ ‌قَوْمًا ‌بَعْدَ ‌إِذْ ‌هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) (التوبة: 115)، وقال: (‌قَدْ ‌جَاءَكُمْ ‌مِنَ ‌اللَّهِ ‌نُورٌ ‌وَكِتَابٌ ‌مُبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ) (المائدة: 15-16).... وأمثال هذا كثير" (بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية).

وأختم بنصيحة لتلميذه ابن القيم -رحمه الله- فتأملها بقلبك: "فعليه أن يوجِّه وجهه، ويحدق نظره إلى منبع الهدى ومعدن الصواب ومطلع الرشد، وهو النصوص من القرآن والسنة وآثار الصحابة، فيستفرغ وسعه في تعرف حكم تلك النازلة منها، فإن ظفر بذلك أخبر به، وإن اشتبه عليه بادر إلى التوبة والاستغفار، والإكثار من ذكر الله، فإن العلم نور الله يقذفه في قلب عبده، والهوى والمعصية رياح عاصفة تطفئ ذلك النور أو تكاد، ولا بد أن تضعفه.

وشهدت شيخ الإسلام -قدس الله روحه- إذا أعيته المسائل واستصعبت عليه؛ فرَّ منها إلى التوبة والاستغفار، والاستغاثة بالله واللجأ إليه، واستنزال الصواب من عنده، والاستفتاح من خزائن رحمته، فقلما يلبث المدد الإلهي أن يتتابع عليه مدًّا، وتزدلف الفتوحات الإلهية إليه" (إعلام الموقعين عن رب العالمين).

قارن وانظر وتأمل  لتستأنس بذلك في سبيلك، وكما قيل:

فحسبكمُ هذا التفاوتُ بينهم               وكل إناءٍ بالذي فيه ينضَح

وليس الغرض هنا التأصيل والاستدلال، ولا الرد والنقض، بل هي مجرد ومضة، والحر تكفيه الإشارة.

اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السَّماوات والأرض، عالم الغيب والشَّهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلِفَ فيه من الحقِّ بإذنك، إنَّك تهدي مَن تشاء إلى صراطٍ مُستقيمٍ.