تذكير العوام والخواص بمناقب عمرو بن العاص (1)

  • 102

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فما أشد حاجتنا لتذكر سيرة سلفنا الصالح، ومطالعة أخبارهم ومعرفة أحوالهم، والتفكر في صفاتهم التي أهلتهم ليكونوا خير الناس بعد الأنبياء، والتعرف على منهجهم في العلم والعمل والدعوة والإصلاح والجهاد والتغيير؛ ذلك أن الأمة لن ينصلح حالها إلا بما صلح به أولها، وضرورة بيان التعريف بهم ونشر سيرهم في زمان شيوع القدوات المفسدة وانبهار الشباب بالأبطال الوهميين، والنجوم الزائفة. 

فحقًّا ما أشد الحاجة لنشر سير السلف الصالحين في زماننا لينهل الشباب منها، ولنعرض أحوالنا على أحوالهم، فنعرف مكامن الخلل وأسباب التأخر والفشل، ونقتفي أثر من رضي عنهم الله -عز وجل-، ونتشبه بهم في القول والعمل.

وإن من الصحابة الذين أكرمهم الله بخصال نادرة وصفات باهرة، وجمع له الكثير من المناقب النبيلة ما لم يجتمع إلا لقلة من البشر قليلة؛ فاستعمل ما أكرمه الله به من صفات في نشر الدين ونصرته إنه الصحابي الجليل عمرو بن العاص -رضي الله عنه- وأرضاه صاحب الأيادي البيضاء في أجل عصر، والذي أنقذ الله به من النار أهل مصر.

أحد فرسان قريش وأبطالها، وأذكى رجال العرب، وأشدهم دهاء وحنكة؛ كان إسلامه قبيل فتح مكة وقال: "ما رفعت بصري في وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- حياءً منه!"؛ فجمع له -رضي الله عنه- شدة الذكاء وشدة الحياء!

وقد فرح رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- بإسلامه وإسلام خالد، قال عمرو -رضيَ الله عنه-: "ما عَدَلَ بي رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وبخالدٍ منذ أسلمنا أحدًا من أصحابه في حربه" .

ولئن كان لعمرو بن العاص مواقف وأعمال قبل الإسلام شديدة على المسلمين، ولم يكن يألو جهدًا قبل إسلامه في الصد عن سبيل الله؛ إلا أنه ما إن أسلم إلا وقام بدين الله حق القيام؛ عبادة وجهادًا، وعمل أعمالًا يعوض بها ما قام به، وإن كان الإسلام يجب ما قبله، ولكنه لم يكتفِ بتكفير الإسلام والتوبة لما فعل، وإنما أثبت صدق إيمانه وقوة يقينه وحبه لدينه، حتى كان أهلًا ليؤمره النبي -صلى الله عليه وسلم- على جيش ذات السلاسل، واستعمله في القيام على شئون عمان، وكان أحد أمراء فتوح الشام. 

وبعض الناس يظن أن عمرو بن العاص رضي الله عنه ليس له حظ من المناقب إلا الذكاء والفروسية، بينما هو في حقيقة الأمر جمع بين فضائل الظاهر وجمال الباطن حيث شهد له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له فقال: (أسلَمَ الناسُ، وآمَنَ عمرُو بنُ العاصِ) (رواه الترمذي، وحسن الألباني)، وفي حديث آخر قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌ابْنَا ‌الْعَاصِ ‌مُؤْمِنَانِ، عَمْرٌو ، وَهِشَامٌ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، و قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ عَمْرَو بْنَ العَاصِ مِنْ ‌صَالِحِي ‌قُرَيْشٍ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وهذه شهادة وثناء من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدل على أنهما آمنا طوعًا وحبًّا لله -تعالى- من غير إكراه.

ورأى ذلك فيه مَن عاشره حتى قال قبيصة بن جابر: "قد صحبت عمرو بن العاص فما رأيت رجلًا أبين أو أنصع رأيًا، ولا أكرم جليسًا منه، ولا أشبه سريرة بعلانية منه"، وروي نحو ذلك عن جابر بن عبد الله قال: "صحبت عمرو بن العاص فما رأيت رجلًا أبين قرآنًا، ولا أكرم خلقًا، ولا أشبه سريرة بعلانية منه".

وللحديث بقية -إن شاء الله-.