وقفات مع حديث السحابة (6)

  • 52

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عن صاحبِ الحديقةِ: (فإنِّي أنْظُرُ إلى ما يَخْرُجُ مِنْها، فأتَصَدَّقُ بثُلُثِهِ، وآكُلُ أنا وعِيالِي ثُلُثًا، وأَرُدُّ فيها ثُلُثَهُ)، وفي روايةِ الطَيَالِسِيِّ: (فَإِنِّي أَجْعَلُهَا عَلَى ثَلاثَةِ أَثْلاثٍ).

فيتَّضِحُ من ذلك: أنَّ هذا الرَّجُلُ يعرفُ لكلِّ ذي حقٍّ حَقَّهُ.

ويتَّضِحُ أيضًا: فضلُ الوسطيَّةِ والاعتدالِ، والتحذيرُ مِن المغالاةِ في جانب مِن الثلاثةِ على حسابِ الجوانب الأخرى.

وإليك أمثلة على ذلك:

1- المغالاةُ في جانب العمل والسعي في طلب الرِّزق على حساب الجوانب الأخرى: قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ؛ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، ‌وَإِذَا ‌شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ) (رواه البخاري). فقوله: (تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ) مجازٌ عن الحرصِ عليه، وتحمُّلِ الذِّلَّةِ مِن أجلِهِ، فمَن بالغَ في طلبِ شيءٍ وانصرفَ عملُهُ كلُّهُ إليه صارَ كالعابِدِ لهُ.

2- المغالاةُ في جانبِ الأهل والأولادِ على حسابِ الجوانبِ الأخرى: قال الله -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ‌لَا ‌تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ . وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (المنافقون: 9-10).

3- المغالاةُ في جانبِ العبادةِ على حسابِ الجوانبِ الأخرى: جاء في الصحيحين عن أنسٍ -رضي الله عنه- قال: جَاءَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيلَ أَبَدًا. وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ. وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: (أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ؛ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي) (متفق عليه).

ومِمَّا سَبقَ نجدُ أنَّ: خير الأمورِ الوسَط، كما قال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (البقرة: 143)، وقالت عائشةُ -رضي الله عنها-: "مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا؛ فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ" (متفق عليه).

 وقال سَلمَانُ لأبي الدَّرْدَاءِ -كما في صحيح البخاري-: "إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ"، فَأَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (صَدَقَ سَلْمَانُ) (رواه البخاري).

وفي الختام نلحظ أمرًا مهمًّا، وهو: أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- لم يذكر هذا الحديث (حديث السحابة) إلا مُنَبِّهًا لأمَّتِهِ على الاقتداءِ بهذا الرَّجُلِ صاحب الحديقة، وأبرزُ صفةٍ في شخصيتهِ هي: "الاستقامةُ على دينِ الله"؛ فهي التي كانت سببًا في حصولِ تلك الكرامةِ العظيمةِ التي دَلَّت على عُلُوِّ منزلةِ هذا الرَّجُلِ عند ربِّهِ -عز وجل-، ونحنُ كذلك مأمورون بهذه الاستقامةِ، بل إنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- مأمورٌ بها مَعَنا، قال -تعالى-: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا) (هود:112).

وفي صحيح مُسلمٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْ لِي فِي الإِسْلامِ قَوْلاً لا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ، قَالَ: (‌قُلْ: ‌آمَنْتُ ‌بِاللهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ). وقال عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي الله عنه-: "الاسْتِقَامَةُ: أَنْ تَسْتَقِيمَ عَلَى الأَمْرِ وَالنَّهْيِ، ولا ‌تَرُوغُ ‌رَوَغَانَ ‌الثَّعَالِبِ"، وقال شيخُ الإسلامِ ابن تيميَّةَ: "أعظَمُ ‌الْكَرَامَةِ ‌لُزُومُ ‌الاسْتِقَامَةِ".

أسأل الله -تعالى- أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.