عاجل

تجديد أم عبث؟! (4)

  • 46

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فنستكمل في هذا المقال الرد على دعوى عدم حجية حديث الآحاد.

- من الأدلة على حجية حديث الآحاد: أن الشَّرْعَ دَلَّ على أخْذِ العِلْمِ من الأفراد والجماعات الناقلين له: قال -تعالى-: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة: 122)، والطائفة تقع على الواحد فما فوقه، والإنذار إعلام بما يُفيد العلم، والتبليغ لأمور الشرع من عقيدة وغيرها بلا فرق.

وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (الحجرات: 6)، وفي قراءة: (فَتَثَبَّتُوا)، ومفهوم الآية قَبول خَبَر الوَاحِد الثقة.

وفي الأحاديث الحث على تبليغ ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فلازم ذلك قبول خبره من الواحد، طالما أنه من طريق صحيح؛ فإن قيل: أحاديث الآحاد تفيد الظن، والشرع نهى عن اتباع الظن.

فجوابه: هذا في الظن المَرْجُوح الذي لا يُفيد عِلْمًا، فيكون قائمًا على الهَوَى، مُخَالِفًا للشرع، وليست أحاديث الآحاد من ذلك في شيء؛ بل هي من الشرع.

ولازم ذلك رد العمل بأحاديث الآحاد في الأحكام والمعاملات إذا اعتبرناها من الظن المنهِي عن الأخذ به شرعًا، وهذا باطل غاية البُطلان.

وعلى هذا نقول: أين الدليل الذي يُعْتَدُّ به على تَرْك العمل بحديث الآحاد في العقائد والتوحيد؟!

هل ثبت ذلك بآية قرآنية أو حديث نبوي صحيح؟!

وهل ثبت عن الصحابة -رضي الله عنهم- العمل بذلك أو التصريح به؟!

وهل ثبت عن أحدٍ من الصحابة ردُّ ما أخبره به أحدُهم من أحاديثَ نبوية تضمنت أمورًا عقائدية؟!

وهل فعل ذلك أحد من أئمة التابعين ومن بعدهم؟

إننا نجزم بلا شك أنه ما مِن أحدٍ مِن الصحابة أو التابعين، أو أئمة الهدى رَدَّ خبر الواحد الذي يتضمَّن أمورًا عقائدية؛ بل كانوا يتقبلون الخبر بالقَبول واليقين، طالما ثبتَتْ صحته؛ كما في أحاديث الرؤية، وتكليم الله، وندائه، ونزوله في ثلث الليل الأخير كل ليلة، إلخ.

- قال النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (‌بَلِّغُوا ‌عَنِّي وَلَوْ آيَةً) (رواه البخاري)، ومَن بلَّغ عنه فقد أقام الحجَّة على المبلغ، وحصل له بذلك العلم، وادِّعاء أنَّ العلم والحجة لا تقوم بإخبار المبلِّغ، ما كان للأمر بذلك معنى، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُرْسِل الوَاحِدَ من أصحابه؛ يبلغ عنه، فتقوم الحجة بذلك على مَنْ بَلّغه، وقد أرسل -صلى الله عليه وسلم- عليًّا، ومعاذًا، وأبا موسى -رضي الله عنهم- في أوقاتٍ مختلفةٍ إلى اليمن، يُبلّغون عنه ويُعلِّمون الناس الدِّين، وأهم شيء في الدِّين إنما هو العقيدة؛ وهذا دليلٌ قاطِع على أن العقيدة تَثْبُت بخبر الواحد، وتقوم به الحجَّة على الناس، وإلا ما اكتفى -صلى الله عليه وسلم- بإرساله بِمُفْرَدِه، ولأرسل معه مَن يَتواتر به النقل.

- القول المذكور يستلزم اختلاف المسلمين فيما يجب عليهم اعتقاده، فيكون الحديث حجة في حقِّ الصحابي، باطلًا مردودًا في حق مَن بعده، فالصحابي الذي سمع من النبي -صلى الله عليه وسلم- حَصَل له اليقين بما سَمِع، واعتقد ذلك عن يقين، ومَن جاء بعده فلم يقبل قول هذا الصحابي؛ لكونه حديث آحاد، لا يرى هذا الاعتقاد ويرده، وما ثبت تواتُرًا في زمن التابعين، ولم يثبت بعدهم متواترًا، سيقع فيه الاختلاف في الاعتقاد بين الزمنين! وهكذا...

ومن لوازم ذلك: أن حديث الصحابي كان صدقًا وحجة في حق الصحابي، ويعد باطلًا ومردودًا في أزمان بعده!

ومِن لوَازِم ذلك أيضًا: رَدُّ كل ما رواه الصحابة مباشرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في أمور الاعتقاد إذا لم يُنقَل عنهم متواترًا! ويبقى إثبات ما كان فيها مِن اعتقادات أخَذَهَا الصحابة من النبي -صلى الله عليه وسلم- كأفرادٍ على وصول عقول المتكلمين إلى إدراكها وإثباتها.

- القول المذكور من لوازمه كذلك: أن لا يُكْتَفَى بإخبار الوَاحِد من علماء الحديث بأن هذا الحديث مُتواتِر؛ إذ إنه خبره عن تواتر الحديث خبر آحاد لا يُحْتَجّ به؛ أي: أنه لا يحتج إلا بما شَهِد بتواتره جميع الناس، لا واحد أو قِلة من أهل الاختصاص، ومثل هذا لا يتيسر لكلِّ أحدٍ أن يثبت شهادة الجميع بتواتر الحديث، إما لنقص العلم عنده، أو لعدم الاطلاع على كتب أكثر أهل الحديث، ويزيد الأمر غرابةً أنَّ هؤلاء المتكلمينَ أبعد الناس عن تعلُّم الحديث، ومُطَالَعة كُتُبِ علمائه، وبضاعتهم فيه مزجاة، ويفوتهم من أقوال المحدثين الكثير والكثير.

وأعجب من ذلك: ذمهم للتقليد في أمور العقيدة، وهم في علم الحديث لا يملكون إلا التقليد فيه!

وللحديث بقية -إن شاء الله-.