• الرئيسية
  • مقالات
  • قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ

قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ

  • 62

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فإن وجودَ البَشَر على الأرض مقترنٌ في عِلْم الله قبل وجودهم بوجود مَن يفسد في الأرض، وأعظم ذلك الفساد: الشرك والكفر، والإلحاد، والتكذيب بالأنبياء وقتلهم، أو السعي في ذلك، وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس، ومن ذلك: سفك الدماء -وهو مِن أنواع الفساد العظيم-، لكنه عطف على الفساد تخصيصًا؛ لتأكيد حرمته، وكراهة الله له.

فيا عباد الله المؤمنين، هذه سنة الله في البشرية، وهي سنة لحِكَم بالغة لا تحصل إلا بوجود ما يضادها؛ فلا بد أن توجد أنواع من العبودية هي أحب عند الله -عز وجل- من عبودية الملائكة الذين يسبِّحون بحمد الله ويقدِّسون له، ولكن في جوٍّ من الطاعة، ودون منازعة من أنفسهم، ولا من من حولهم؛ فالكل مطيع، والكل لا يجد في نفسه إلا إرادة الطاعة، أما أهل الإيمان في الأرض فيتعبدون بأنواع العبودية التي يحبها الله في وسط المفسدين في الأرض السافكين للدماء، ومع وجود نوازع من داخلهم ومِحَن في الشبهات والشهوات، ومع ذلك تظهر أنواع العبودية: كالتقوى، والاستعانة بالله، والجهاد في سبيله، والتضحية والاستشهاد، والصبر على المصائب، والصبر على الطاعات رغم صعوبتها، والرضا بقضاء الله -عز وجل-، وتحمُّل الإخراج من بيوتهم لقولهم ربنا الله، وغيرها من أنواع العبودية.

فلا بد أن نستحضر حكمة الله فلا تجزع نفوسنا.

ثم لنتأمل... فقد قَتَل ابنُ آدم -القاتل- أخاه التقي المظلوم المتقبَّل منه، المخلص الناصح لأمر الله، وتحمل القاتل وزر كل نفس تقتل ظلمًا إلى يوم القيامة، وسار ممَّن يقول الكفار في النار فيه: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ ‌أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) (فصلت: 29)، وهما: ابن آدم الأول، وإبليس -لعنه الله-، وبقي حبُّ ابن آدم المقتول الطيب المظلوم في قلوب ملايين الملايين من البشر في كلِّ زمان، فبقي الحق وزال الباطل.

وكذلك قُتِل السحرة المؤمنون بموسى -عليه السلام- عن آخرهم، وكانوا فيما يذكرون ثمانين ألفًا -أو أقل أو أكثر- في يومٍ واحدٍ، وقُطِّعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وصلبوا في جذوع النخل حتى ماتوا ودماؤهم تقطر، وما نَقَم منهم فرعون؛ إلا أنهم آمنوا بآيات ربهم لما جاءتهم، ولم يستطع موسى -عليه السلام- إنقاذهم، ولم ينزل الله -عز وجل- على فرعون ساعة إعدام السحرة صاعقة تأخذهم، وأملى له -سبحانه- لمتانة كيده حتى جاء هلاك فرعون بعد ذلك؛ رغم أنه استمر في تقتيل أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم وقهرهم، وكان جواب موسى -عليه السلام-: (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ ‌يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ . قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (الأعراف: 128-129).

ثم في الموعد المقرر، والقدر المحتوم في الأجل الذي قَدَّره الله لا غيره؛ غرق فرعون وجنده جميعًا، ونصر الله موسى -صلى الله عليه وسلم- وأعزه وأعز قومه، ومكَّن للذين استضعفوا في الأرض وجعلهم أئمة، وجعلهم الوارثين بحمده -سبحانه وتعالى-، فبقي الحق وزال الباطل.

وكذلك قُتِل وحُرِّق جميعُ أهل مملكة أصحاب الأخدود من المؤمنين، وبعد أن ألقوا جميعًا في النار وصاروا شهداء؛ أذاق اللهُ عذابَ الحريق لمَن فتنهم مِن هذا الملك الجبار المدعي الربوبية وجنوده المجرمين، ولم يأخذهم -سبحانه وتعالى- حين ألقوا المؤمنين في النار، بل أجَّلهم للأجل المحتوم والقَدَر السابق، فبقي الحق وزال الباطل.

وقُتِل زكريا -عليه السلام- وقتل يحيى -عليه السلام-، وحاولوا صلب المسيح -عليه الصلاة والسلام-، وقتل قبلهم كثيرٌ من الأنبياء قتلهم اليهود، كما قال -تعالى-: (‌أَفَكُلَّمَا ‌جَاءَكُمْ ‌رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) (البقرة: 87)، ثم مَكَّن الله لأهل الإيمان وجعل الذين اتبعوا عيسى -صلى الله عليه وسلم- فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ببعثة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وإظهار التوحيد الحق؛ دين المسيح -صلى الله عليه وسلم-، ودين جميع الأنبياء؛ فبقي الحق وزال الباطل.

وقتل الصليبيون كذلك جميعَ سكان القدس من المسلمين حين احتلوها، فقتلوا أكثر من 90 ألفًا من الرجال والنساء والأطفال، لم يبقوا أحدًا؛ ثم هزمهم الله ورَدَّ القدس على المسلمين، فبقي الحق وزال الباطل.

وقُتِل ملايين من المسلمين على يد التتار، ففي بغداد وحدها قُتِل: مليون و800 ألف مسلم، ثم غُلِب التتار فأسلموا، وبقي الحق وزال الباطل.

وقتل ملايين في الجزائر وليبيا، وبلاد المغرب، وأفغانستان، ثم رحل المحتل، وبقي الحق وزال الباطل.

ووالله ثم والله ثم والله، ليزولن ملكُ اليهود عن فلسطين مهما قَتَلوا من أطفال المسلمين ورجالهم ونسائهم، سيعود الأقصى وفلسطين كلها إلى المسلمين؛ فسيبقى الحق وسيزول الباطل بحكم الله وإذنه: (‌وَلَقَدْ ‌سَبَقَتْ ‌كَلِمَتُنَا ‌لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ . إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ . وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) (الصافات: 171-173)، وقال -تعالى-: (‌وَلَقَدْ ‌كَتَبْنَا ‌فِي ‌الزَّبُورِ ‌مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ . إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ . وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 105-107)، وقال -تعالى-: (‌وَاللَّهُ ‌غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف: 21)، وقال -تعالى-: (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (ص: 88).