تأملات في مسألة القدس (1)

  • 98

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد جعل الله -سبحانه وتعالى- مصائر الأمم والشعوب مرتبطة بأحوالهم وإيمانهم، وأعمالهم وأقوالهم، فحسب ما يصنعون يفعل بهم -سبحانه-؛ فهو الذي بيده الأمر وبيده الملك، وهو الذي يخفض ويرفع، ويعز ويذل، (‌قُلِ ‌اللَّهُمَّ ‌مَالِكَ ‌الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران: 26-27).

وأكثر الناس لا ينتبهون لذلك، ويظنون أن المال والعزة والسلطة هي التي تحدد الأمور، وهي التي تحدد مستقبل الدول والجماعات والطوائف؛ لكن الحق الذي لا شك فيه أن هذا ابتلاء من الله -تعالى- لخلقه؛ لينظر: ماذا يصنعون إذا مكَّن لهم؟! قال -تعالى-: (‌ثُمَّ ‌جَعَلْنَاكُمْ ‌خَلَائِفَ ‌فِي ‌الْأَرْضِ ‌مِنْ ‌بَعْدِهِمْ ‌لِنَنْظُرَ ‌كَيْفَ ‌تَعْمَلُونَ) (يونس: 14)، وجعله -سبحانه- سنة ماضية لا تبديل لها، قال -تعالى-: (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ ‌تَحْوِيلًا) (فاطر: 43).

إن الكفر والفساد والكبر لا بد أن يكون عاقبته الذل والهوان، وتسليط الأعداء، وإن كانوا أكفر ممَّن فعل الفساد والعلو، ولكن يسلطهم الله -عز وجل- ثم ينتقم من الذين سلطهم إذا كانوا أهل فساد، وأما أهل الإيمان والتقوى، فقال -سبحانه وتعالى-: (‌وَلَوْ ‌أَنَّ ‌أَهْلَ ‌الْقُرَى ‌آمَنُوا ‌وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف: 96)، فالإيمان والتقوى سبب لجلب البركات، ورفع المحن والابتلاءات، أما التكذيب والكسب والعمل السيئ؛ فمآله أن يأخذهم الله، وكم مِن أمم سادت ثم بادت، وهذه آثارهم تعرفنا بمآلهم ومصيرهم؛ فأين قوم ثمود ومساكنهم إلى الآن موجودة في الجبال منحوتة، تشهد بأنهم كانوا في القوة بما لم يمكن لغيرهم؛ فقد نحتوا الجبال نحتًا، وقوم ثمود قبل إبراهيم -عليه السلام-، وكذلك قوم عاد لا تزال ترى مساكنهم: (‌فَتِلْكَ ‌مَسَاكِنُهُمْ ‌لَمْ ‌تُسْكَنْ ‌مِنْ ‌بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ) (القصص: 58).

وهذه آثار الفراعنة وآثار عبادتهم لغير الله -تعالى-، وآثار شركهم وكفرهم، وبغيهم على الناس؛ فكيف كان مآلهم؟ وأين ذهبت دولتهم؟ وأين ملكهم؟ وأين سلطانهم؟ كل ذلك قد ذهب، وهكذا لا يجوز أن يغرنا ما عليه الكفار، قال -تعالى-: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ . ‌مَتَاعٌ ‌قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) (آل عمران: 196-197).

والله -سبحانه وتعالى- قد قصَّ علينا من قصص بني إسرائيل ما نعلم به سنته، ونعلم به مآلنا ومآل أعدائنا، وأي نوع من الأعمال والاعتقادات نصنع ليكون ما لنا، قال -تعالى-: (‌وَقَضَيْنَا ‌إِلَى ‌بَنِي ‌إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا . فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا . ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا . إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا . عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) (الإسراء: 4-8).

إنها سنة ماضية ليست فقط لبني إسرائيل، بل إن القاعدة: (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا)، ولن (تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ ‌تَحْوِيلًا) (فاطر: 43).

قضى الله في الكتاب، وقضى إليهم: يعني أخبرهم في الكتاب المنزَّل أن هذا سيحدث منهم، وأخبرهم بذلك تحذيرًا لهم من الفساد والكبر، وهو تحذير كذلك لنا، ولكل الناس؛ فإن الله جعل عاقبة البغي إلى الذل والهوان، وجعل عاقبة الظلم والفساد في الأرض إلى الانكسار والزوال، قال -تعالى-: (‌وَقَضَيْنَا ‌إِلَى ‌بَنِي ‌إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) أي: لتفسدن في الأرض مرتين كبيرتين، (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا) وأعظم صور الإفساد هي الشرك بالله والبدع.

وقد ذكر أهل العلم: أن بني إسرائيل بعد أن نجاهم الله من فرعون امتنعوا عن دخول الأرض المقدسة أرض فلسطين التي كتبها الله لهم بإيمانهم لا بمجرد نسبهم، فإن سكانها كانوا قوم كافرين، فجعل الله -عز وجل- أرض القدس وفلسطين لبني إسرائيل لما كانوا موحِّدين، ولكنهم عصوا وفضلوا الركون إلى الأرض والإخلاد إليها، وقالوا لموسى -عليه السلام-: (قَالُوا يَا مُوسَى ‌إِنَّ ‌فِيهَا ‌قَوْمًا ‌جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) (المائدة: 22)، يودون أن يسلم الناس لهم البلد، وأن يفتحوا لهم الأبواب، وأن يرحلوا منها أيضًا، وأن يتركوا لهم بيوتهم ومنازلهم؛ أي جهل هذا؟! وأي غباء هذا الذي يطلبونه؟!

وأي ركون إلى الدنيا هذا الذي يرغبونه؟!

ولذلك لم يحصل له ما أرادوا، بل لما زادوا في الطغيان وقالوا لموسى: (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (المائدة: 24)، قال موسى -عليه السلام-: (رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ . قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (المائدة: 25-26)، وتاه بنو إسرائيل أربعين سنة ومات هارون -عليه السلام-، ومات موسى -عليه السلام- في فترة التيه، وهم أنبياء الله -عز وجل- وأصفياؤه من خلقه في ذلك الزمان، بل على مرِّ الزمان، فموسى -عليه السلام- في المنزلة بعد محمد وإبراهيم -عليهما السلام-، ومع ذلك لم يدخل الأرض المقدسة، ولم تتكون له الدولة؛ لماذا؟! لأن الأفراد مهما بلغوا في المنزلة عند الله لا يكون ذلك سببًا لتمكين أمتهم؛ لأن التمكين لجماعة أو لطائفه وأمة، وليس للأفراد.

فماذا يصنع موسى -عليه السلام- لو أن قومًا بهذه الصفات تملكوا الناس، وتملكوا الأرض، وصار لهم من المال والسلطة ما يزدادون به فسادًا؛ فلذلك كان ما طلبه موسى -عليه السلام- من ربه أن يفرق بينه وبين القوم الفاسقين، وقد وقع له ما أراد، ومات موسى -عليه السلام-، ولم يكن ذلك نقصًا في منزلته عند الله -تعالى-، بل كان في منزلة عالية، قال -تعالى-: (‌وَكَانَ ‌عِنْدَ ‌اللَّهِ ‌وَجِيهًا) (الأحزاب: 69).

ومات هذا الجيل من بني إسرائيل في فترة التيه، وانشغل موسى -عليه السلام- خلال هذه المرحلة بالتربية والإعداد، قال -تعالى-: (‌وَاخْتَارَ ‌مُوسَى ‌قَوْمَهُ ‌سَبْعِينَ ‌رَجُلًا ‌لِمِيقَاتِنَا) (الأعراف: 155)، وكان ذلك دلالة على الاهتمام الجديد الذي اهتم به موسى -عليه السلام- في الإعداد الخاص لمن سيكونون قادة المستقبل.

وهذا الوعي الذي لابد أن تدركه الأمة؛ فإنه لن يكون القادة الصالحون بمجرد الأماني، بل لابد من الإعداد؛ وكان من ضمن هذا الإعداد صحبته لفتاه يوشع بن نون -عليه السلام-، وهو نبي الله لبني إسرائيل بعد موسى وهارون -عليهما السلام- بعد فترة التيه، ومات هذا الجيل، ونشأ جيل جديد قد عاش في الصحراء بعيدًا عن ذُلِّ الفراعنة الذي أدَّى ببني إسرائيل لهزيمة النفس، وذل الإرادة والقصد، والكسل والعجل، والامتناع من الطاعة وسوء الأدب مع الله -تعالى-، فتعودوا أن كلَّ شيء يتم من خلال أمور سماوية وقدرة إلهية دون عمل منهم، وخاب ظنهم في ذلك؛ فإن الله لا يمكن للأمم إلا بعمل منهم.

خرج يوشع بن نون -عليه السلام- ببني إسرائيل بعد فترة التيه، وبعد أن كانوا لا يستطيعون الاجتماع ويسيرون في مدى بسيط بصحراء سيناء؛ هداهم الله للاجتماع وائتلفت الكلمة، واجتمعت الجند، وأ مِر يوشع بن نون الذي صار نبيًّا بعد أن صاحبه موسى وعلَّمه وأدَّبه وسافر معه، وكان مع ذلك يعلمه كيفية القيادة كما يعلمه العقيدة والأخلاق والعبادة، فاصطفاه الله لنبوته وقيادته للأمة؛ فجنَّد جنود بني إسرائيل؛ لأن الأمر مع التوكل لابد فيه من أخذ بالأسباب، وقاتل ليدخل بيت المقدس، وأوشكت الشمس يوم الجمعة على الغروب ولم تفتح البلد، وهو ملتزم بالشريعة في كلِّ تفاصيل عمله وعمل جماعته وجيشه؛ وذلك أنهم كانوا مُنِعوا من العمل ليلة ويوم السبت، وأن يتفرَّغوا للعبادة، فنظر للشمس ودعا الله، وقال لها: "إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا"، فحبس الله الشمس وطالت المدة، واستمر القتال حتى فتح بيت المقدس قبل أن تغرب الشمس.

وجمع الغنائم وكانت في شرعهم لا تقسَّم؛ ليتخلصوا من عبودية المال التي أكلتْ قلوب فريق واسع منهم، وكانت تأتي نارٌ من السماء تأكل الغنائم علامة على قبول جهادهم وقبول عملهم، فوضعوا الغنائم، فجاءت النار فاقتربت منها، لكنها أبت أن تطعم الغنائم، فقال نبيهم: (‌فِيكُمْ ‌غُلُولٌ، ‌فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ، فَبَايَعُوهُ فَلَصِقَتْ يَدُ رَجُلٍ بِيَدِهِ فَقَالَ: فِيكُمُ الْغُلُولُ، فَلْتُبَايِعْنِي قَبِيلَتُكَ، فَبَايَعَتْهُ، قَالَ: فَلَصِقَتْ بِيَدِ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، فَقَالَ: فِيكُمُ الْغُلُولُ، أَنْتُمْ غَلَلْتُمْ، قَالَ: فَأَخْرَجُوا لَهُ مِثْلَ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: فَوَضَعُوهُ فِي الْمَالِ وَهُوَ بِالصَّعِيدِ، فَأَقْبَلَتِ النَّارُ فَأَكَلَتْهُ) (رواه مسلم).

ثم تكونت المملكة الأولى لبني إسرائيل في أرض فلسطين في عهد يوشع بن نون على التوحيد والإيمان والطاعة، فميراث الأرض لا يكون بمجرد النَّسَب، ولا بمجرد أننا وجدنا آباءنا على هذه الأرض، وإنما يكون بالعمل الصالح.

ثم بدَّل بنو إسرائيل بعد يوشع بن نون، وكانت تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي أرسل الله نبيًّا بعده، ثم زاد طغيانهم؛ فعبدوا الأوثان وابتدعوا في دين الله -تعالى-، وارتكبوا المنكرات وعتوا عتوًّا كبيرًا، ووصل الحال بهم كما وصف الله -عز وجل-: (‌وَضُرِبَتْ ‌عَلَيْهِمُ ‌الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) (البقرة: 61)، وقال: (‌أَفَكُلَّمَا ‌جَاءَكُمْ ‌رَسُولٌ ‌بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) (البقرة: 87)، فكانت أحوالهم في الكفر والعلو معًا.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.