الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (155) دعوة غيَّرت وجه الأرض (2)

  • 39


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41).

قال الإمام ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله -تعالى-: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ): "وهذا يدل على أن هذا دعاءٌ ثانٍ بعد الدعاء الأول الذي دعا به عندما ولَّى عن هاجر وولدها، وذلك قبل بناء البيت، وهذا كان بعد بنائه؛ تأكيدًا ورغبة إلى الله -عز وجل-؛ ولهذا قال: (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)".

(قلتُ: المقصود بالدعاء الثاني: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا)، والدعاء الأول: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) (البقرة: 126)؛ لأن الدعاء الأول قبل أن تتكون البلدة، والدعاء الثاني بعد أن تكونت بلدة، والترتيب الزمني بين هذه الدعوات ليس مرادًا، فالدعوة الأولى قوله: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)، والظاهر أن معها قوله -تعالى-: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا)، وبعد أن تكوَّنت البلدة، قال: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا). وقوله -تعالى- عن إبراهيم: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ‌وَهَبَ ‌لِي ‌عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) (إبراهيم: 39)، هو بعد ميلاد إسحاق بسنوات عديدة؛ قيل: ثلاثة عشر عامًا، فالترتيب في الآيات لا يلزم منه الترتيب الزمني).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقوله: (الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) قال ابن جرير: هو متعلق بقوله: (الْمُحَرَّمِ) أي: إنما جعلته محرمًا ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)، قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبيره، وغيره، لو قال: أفئدة الناس؛ لازدحم عليه فارس والروم، واليهود والنصارى، والناس كلهم، ولكن قال:  (مِنَ النَّاسِ) فاختص به المسلمون. وقوله: (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ) أي: ليكون ذلك عونًا لهم على طاعتك، وكما أنه وادٍ غير ذي زرع؛ فاجعل لهم ثمارًا يأكلونها، وقد استجاب الله ذلك، كما قال: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ ‌حَرَمًا ‌آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا) (القصص: 57)، وهذا من لطفه -تعالى- وكرمه ورحمته وبركته؛ أنه ليس في البلد الحرام مكة شجرة مثمرة، وهي تجبى إليها ثمرات ما حولها، استجابة لخليله إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-.

وقوله -تعالى-: (رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ) قال ابن جرير: يقول -تعالى- مخبرًا عن إبراهيم خليله أنه قال: (رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ) أي: أنت تعلم قصدي في دعائي وما أردت بدعائي لأهل هذا البلد، وإنما هو القصد إلى رضاك والإخلاص لك، فإنك تعلم الأشياء كلها ظاهرها وباطنها، لا يخفى عليك منها شيء في الأرض ولا في السماء.

ثم حمد ربه -عز وجل- على ما رزقه من الولد بعد الكبر، فقال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ‌وَهَبَ ‌لِي ‌عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) أي: إنه يستجيب لمن دعاه، وقد استجاب لي فيما سألته من الولد، ثم قال:  (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) أي: محافظًا عليها مقيمًا لحدودها، (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أي: واجعلهم كذلك مقيمين الصلاة، (رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) أي: فيما سألتك فيه كله.

(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ) وقرأ بعضهم: "ولوالدي" بالإفراد، وكان هذا قبل أن يتبرأ من أبيه لما تبيَّن له عداوته لله -عز وجل-، (وَلِلْمُؤْمِنِينَ) أي: كلهم، (يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) أي: يوم تحاسب عبادك فتجزيهم بأعمالهم؛ إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر". (انتهى من تفسير ابن كثير رحمه الله).

(قلتُ: ما ذكره ابن كثير -رحمه الله- عن ابن جرير من أن قوله -تعالى-: (رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) متعلق بقوله: (الْمُحَرَّمِ) أي: إنما جعلته محرمًا ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده، فيه نظر؛ فإن ابن جرير -رحمه الله- قال: إنما فعلتُ ذلك ليقيموا الصلاة، فالظاهر أن كلامه مثل كلام القرطبي الذي ذكره في تفسيره، من أن المعنى: إني أسكنت من ذريتي عند بيتك المحرم ليقيموا الصلاة. والله أعلم).

وللحديث بقية -إن شاء الله-.