الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (156) دعوة غيَّرت وجه الأرض (3)

  • 55


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41).

فيه فوائد:

الأولى: الدعاء من أعظم أسباب تغيير الحياة على وجه الأرض، فالله -تعالى- قدَّر مقادير وقدَّر لها أسبابًا، ومما قدره الله -عز وجل-: تعمير مكة المكرمة، وتعمير بيته الحرام؛ للقيام في الصلاة والركوع والسجود، والطواف والاعتكاف، وسائر أنواع العبادات؛ قال الله -عز وجل-: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (الحج: 26).

وجعل الله -عز وجل- البيت الحرام قيامًا للناس، به يقوم أمر الناس: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ) (المائدة: 97)، وإذا أوشكت الدنيا على الانتهاء أَذِن الله قَدَرًا في هدمه، ولا بقاء للناس من غير الكعبة المشرفة، فمن أشراط الساعة: هدم الكعبة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يُخَرِّبُ ‌الْكَعْبَةَ ‌ذُو ‌السُّوَيْقَتَيْنِ ‌مِنَ ‌الْحَبَشَةِ) (متفق عليه)، وأما قبل ذلك؛ فلا قوام للناس إلا ببيت الله الحرام، وبتوجه المؤمنين إلى هذه القبلة المشرفة.

كيف عمرت هذه البقعة؟

وكيف اتجهت إليها قلوب الملايين، وتتجه وجوههم إليها في الصلاة؟ (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) (البقرة: 144)، وتريد قلوبهم أن تذهب إلى هذا المكان، فيذهب الملايين من كل عام إلى هذه البقعة المشرفة وما حولها من البقاع المقدسة لأداء فرض الحج الذي أمر الله بأدائه وافترضه على الناس، (‌وَلِلَّهِ ‌عَلَى ‌النَّاسِ ‌حِجُّ ‌الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ‌وَمَنْ ‌كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران: 97)، وبيَّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه ركن من أركان الإسلام، فقال: (بُنِيَ ‌الْإِسْلَامُ ‌عَلَى ‌خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ) (متفق عليه).

وعمرت هذه البقعة بدعوة مباركة من إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، وقد كرَّم الله -عز وجل- سارة بأن كانت من المؤمنين دون قومها، وهاجرت مع إبراهيم ولوط -عليهما السلام-، ثم سافرا إلى مصر ورد الله عنها كيد الملك الكافر عندما ذهب إبراهيم بها إلى أرض مصر، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام إِلَّا ‌ثَلَاثَ ‌كَذَبَاتٍ ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللهِ -عز وجل-؛ قَوْلُهُ: (إِنِّي سَقِيمٌ) وَقَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) وَقَالَ: (بَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ وَسَارَةُ إِذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنَ الْجَبَابِرَةِ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَا هُنَا رَجُلًا مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْهَا فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ قَالَ: أُخْتِي فَأَتَى سَارَةَ قَالَ: يَا سَارَةُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرَُكِ وَإِنَّ هَذَا سَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّكِ أُخْتِي فَلَا تُكَذِّبِينِي فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ فَأُخِذَ فَقَالَ ادْعِي اللهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ فَدَعَتِ اللهَ فَأُطْلِقَ. ثُمَّ تَنَاوَلَهَا الثَّانِيَةَ فَأُخِذَ مِثْلَهَا أَوْ أَشَدَّ فَقَالَ: ادْعِي اللهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ فَدَعَتْ فَأُطْلِقَ فَدَعَا بَعْضَ حَجَبَتِهِ فَقَالَ: إِنَّكُمْ لَمْ تَأْتُونِي بِإِنْسَانٍ إِنَّمَا أَتَيْتُمُونِي بِشَيْطَانٍ فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ فَأَتَتْهُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ: مَهْيَا قَالَتْ: رَدَّ اللهُ كَيْدَ الْكَافِرِ أَوِ الْفَاجِرِ فِي نَحْرِهِ وَأَخْدَمَ هَاجَرَ) (متفق عليه).

وضربت سارة -رضي الله عنها- مثلاً في التضحية والحب الصادق الحقيقي لزوجها؛ إذ وهبت هاجر وهي خادمتها التي وُهِبت لها وملك يمينها؛ وهبتها لإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- عسى الله -عز وجل- أن يرزقه منها الولد؛ إذ كانت هي عقيمًا لا تلد إلى ذلك التاريخ، فضربت مثلاً في التضحية والحب الحقيقي والطاعة لله -عز وجل-، فاتخذ إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- هاجر سُريَّة وولدت له إسماعيل -عليه الصلاة والسلام-، ولكن وقع في قلب سارة ما وقع من الغيرة الفطرية؛ رغم أنها هي التي أرادت ذلك.

وكان الله قد قدَّر تعمير بيته الحرام بإسماعيل -عليه الصلاة والسلام- وذريته، فأمر الله -عز وجل- إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- أن يأخذ هاجر وأن يهاجر بها إلى موضع مكة المكرمة؛ في هذا المكان الجدب الذي لا أحد فيه ولا أنيس، ولا جليس، ولا شيء؛ ترك إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- هاجر وابنها الرضيع إسماعيل -عليه الصلاة والسلام-، ومعها جراب تمر، وشملة، وقربة ماء، تركهم عند دوحة قريبة من موضع زمزم، ولم يكن بني البيت بعد، وإنما كان مثل الأكمة المرتفعة -أي: مثل التل المرتفع-، وتركهما وحدهما في هذا المكان الذي ليس فيه أحد.

فترى هذه البقعة التي لا نبت فيها ولا زرع، ولا ماء، ولا شيء على الإطلاق من مقومات الحياة؛ اختارها الله يوم خلق السماوات والأرض لتكون بقعة عبادته وتوحيده إلى آخر الزمان، إلى أن لا يوجد على وجه الأرض مَن يقول: "الله الله"، ولله الحمد والمنة أن الله حرَّم مكة يوم خلق السماوات والأرض ولم يحرمها الناس من عند أنفسهم فيكون ذلك قابلًا للتغيير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (‌إِنَّ ‌اللهَ ‌حَرَّمَ ‌مَكَّةَ ‌يَوْمَ ‌خَلَقَ ‌السَّمَاوَاتِ ‌وَالْأَرْضَ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحَرَامِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَلَمْ تَحْلِلْ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنَ الدَّهْرِ، لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا -أي: لا يجتث حشيشها-، وَلَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ -أي: معرِّف لها أبدًا-) (متفق عليه).

اجتبى الله هذه البقعة وجرَّدها من مقومات الحياة الطبيعية، وقدَّر أن تكون أكثر بقعة في الأرض ازدحامًا على وجه الأرض ممَّن يعبد الله؛ آية عظيمة من آيات الله، وبيان لأهمية الدعاء إذ كانت هذه الدعوة من إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ) (إبراهيم: 35)، وفي الآية الأخرى: (رَبِّ اجْعَلْ ‌هَذَا ‌بَلَدًا آمِنًا) (البقرة: 126).

وللحديث بقية -إن شاء الله-.