هموم داعية

  • 138

مما لا شك فيه أن الأمة الإسلامية بصفة عامة وبلدنا مصر (حفظها الله من كل سوء) بصفة خاصة تمر بمرحلة من اخطر المراحل فى تاريخها الحديث، فالواقع متغيرٍ سريع ويحتاج منا الى حكمة وبصيرة وعلم. ولعل الحدث الاكبر والاخطر ، والاعمق تأثيراً على الدعوة الاسلامية ودعاتها فى مصر ، هو زلزال 30/6/2013 وما بعده وما تلاه من أحداث وتغييرات سياسية واقتصادية وإجتماعية ، وما تبعه من تغيير جذرى فى موازين القوى فى كافة المجالات السابق ذكرها . وهنا ينبغى لنا أن نقف مع انفسنا وقفة المتأمل والناقد والناصح لنرصد المخاطر والعقبات التى تحيط بالدعوة الاسلامية بعد هذا التغيير الجذرى كما قلنا ولعل اكبر المخاطر هى التى تواجهها الدعوة من داخلها ومن ابنائها ناهيك عن المخاطر والمؤمرات التى تحيط بالدعوة والدعاة من خارجها وهذا المقال احاول فيه رصد هذه المخاطر على سبيل النصح والتحذير لا سبيل الشرح والاسهاب والتنظير لعل الدعاة ينتبهون لها فيوجهون سهامهم الدعوية نحوها ويتم التركيز على هذه الامراض لعلاجها فإن أول مراحل العلاج هى مرحلة تشخيص الداء.

إنَّ اللَّبِيبَ إذَا بَدَا لهُ مِنْ جسْمِه *** مرضَانِ مختلفَانِ دَاوَى الأخْطَرَا

أولاً: خلل فى فهم مناهج التغيير عند الانبياء والمرسلين

ونحن لا ندعى الفهم دون غيرنا ولكن وجدنا فى حواراتنا مع المخالفين أن اكثرهم لا يفهم مناهج التغيير والسنن الربانية لتغيير الامم وتحولت الوسائل الى غايات وهذا سبب رئيس من أسباب الخلاف. فعندما نتأمل دعوة الانبياء والمرسلين وسيرتهم نجد أن أكثرهم أو جلهم لم يحكموا دولاً ولم يكونوا ملوكا أو رؤساءً ، إذاً فالحكم والرياسة وسيلة لتحقيق الغاية العظمى وهى تعبيد الناس لله رب العالمين وهى المقصد الاسمى من خلق الناس ، قال تعالى ((وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون)) . فإذا عدمت الوسيلة أو سلبت بقيت الغاية وهى بذل الجهد فى تعبيد الناس لله رب العالمين. إذاً لا ينبغى ان يتحول كرسى الرئاسة الى غاية تراق من أجلها الدماء وتزهق من اجله النفوس وتخرب بسببها البلاد ، ويحدث بسبب النزاع عليه من المفاسد ما لا يعلمه إلا الله. وكذلك فى مناهج التغيير عند الانبياء والمرسلين أننا لم نجد فى قصص نبى واحد أنه قاد ثورة أو قام بثورة وأو دبر لثورة وأن التغيير دائماً عند الانبياء والمرسلين كان عن طريق الدعوة الى الله وتغيير قلوب الناس وإستمالة قلوبهم الى الاسلام والايمان. وأن دولة الاسلام فى المدينة ما قامت إلا بعد ثلاثة عشر سنة من الدعوة الى الله بل ما قامت إلا بعد أن دخل الاسلام كل بيت من بيوت أهل المدينة ، وهكذا كانت هذه الدولة ثمرة من ثمار الدعوة الا الله عز وجل . بل إن الجهاد فى سبيل الله لم يفرض إلا بعد أن قامت الدولة الاسلامية فى المدينة ولم يفرض فى مكة أبداً لأنها كانت دار استضعاف للمؤمنين. إذاً تغيير المجتمعات يحتاج إلى وقت والتغيير السريع المفاجئ كارثى فى اكثر الاوقات، كذلك من قصص الاولين نعلم ان التمكين الحقيقى لا يكون أبداً بالجلوس على كرسى الرياسة او القفز على رأس السلطة فلقد كان النجاشى ملكاً متوجاً لم يستطع أن يفرض الاسلام على قومه وكاد هرقل ان يسلم لما عرض عليه الاسلام لولا أن قومه لم يقبلوا ذلك وقال فيه النبى صلى الله عليه وسلم ((ضن الرجل بملكه)). إذا هناك خطأ كبيران يتصرف البعض بمجرد جلوسه على كرسى السلطة على أنه فى لحظة التمكين الكامل وما هو بتمكين أبداً. هذا أمر لابد من حسمه مع المخالفين للدعوة السلفية لأن أكثر المخالفين يتناقشون فى مواقف للحزب أو الدعوة دون تحرير سبب الخلاف والنزاع. فإذا حررنا مواضع الخلاف سنوفر على أنفسنا الكثير والكثير من الجدل واللغط.

ثانياً : الاحباط واليأس وفقدان الامل فى التغيير والاصلاح

وهذا داء عضال وسم قتال أعي الاطباء علاجه ، يدفع الناس الى السلبية وضعف الهمة والنبى صلى الله عليه وسلم قال (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الايمان). هذا يعقوب عليه السلام بعد سنين من غياب يوسف وانقطاع أخباره قال لأبنائه : (( يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون)). فالامل دائماً وأبداً فى الله عز وجل وفيما فى يد الله ، فهو سبحانه وتعالى يغير ولا يتغير " كل يوم هو فى شأن ". وربما دفع هذا الشعور الشباب الى التكفير وحمل السلاح والخروج عن الضوابط الشرعية فى تغيير المنكر فتكون المصيبة أشد والفساد عريض، فماذا تنتظر من أناس فقدوا الامل فى التغيير ، بل قد يكونوا فقدوا الامل فى الحياة . وفى رأى الشخصى ان هذا من أكبر المخاطر والامراض التى يجب أن يتم علاجها عن طريق العلماء والدعاة والمصلحين فيقوموا ببث الامل فى نفوس الناس.

ثالثاً: غياب السلم المجتمعى

واعنى به إنتشار ثقافة البغضاء والكراهية بين الناس وهذا المرض يفجر أى مجتمع ويقضى على أى امة يتواجد فيها ناهيك عن أنه مخالف لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن آثار هذا المرض : انتشار السب والشتم والتجريح بغير حق وانتشار الخصومات ، والفجر فى الخصومة ، واستحلال الكذب وإتهام الناس بالباطل وكتمان الحق ، وتتبع العثرات والزلات وإذاعتها ، وكتمان المحاسن وعدم إذاعتها ، كل ذلك قد يكون إنتصاراً لراى مرجوح أو باطل. وهذا لا يجوز لصاحب حق فكيف إن كان صاحبه صاحب هوى وباطل ، فإنا لله وإنا إليه راجعون . فالحذر الحذر من هذا المرض، والنكير النكير على من أصيبوا بهذا السرطان المستشرى فى الامة الأن . ولقد سمى الله الفجر في الخصومة لدداً قال تعالى :{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}. الألد الشديد اللدد أي الجدال، مشتق من اللديدين وهما صفحتا العنق، والمعنى أنه من أي جانب أخذ من الخصومة قوي. وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ " فنحن نحتاج الى علاج ناجع ودواء ناجز لهذا المرض فإن الداعية كالطبيب مطلوب منه معالجة امراض الامة بالكتاب والسنة ففيهما شفاء لكل داء.

رابعا : إسقاط العلماء

وهذه أيضا مصيبة عظمى وبلية كبرى ، ذكر الشيخ سفر الحوالى فى كتاب العلمانية أن من اهم برتوكولاتهم محاولة إسقاط العلماء وتجريحهم والحط من شأنهم حتى تنفصل هذه الامة عن علمائها فإذا وقعت الفتنة فى الامة ، قال العلماء فلا يسمع لهم وأفتوا فلم يستجب لفتواهم . هذا منهج العلمانيين والليبراليين والمستشرقين وأشباههم ، و إسقاط العلماء جزء من مخطط علمانى كبير لعلمنة هذه الامة وسلخها من جلدها وهويتها ، ولكن المصيبة أن ينجر وراءهم بعض من ينتسبون الى التيارات الاسلامية أو الجماعات المحسوبة على الدعوة الاسلامية إما جهلاً بهذه المكيدة أو هوى لمخالفة هؤلاء العلماء لمنهجهم وطريقتهم او حسداّ لهؤلاء العلماء لانتشار علمهم وزيادة فضلهم وكثرة اتباعهم ، وإنتشار مصنفاتهم ، فالحذر الحذر من هذه المؤامرة الشنيعة الخبيثة لإسقاط علماء الامة والحط من قدرهم وتتبع عوراتهم وزلاتهم ، فهؤلاء هم ائمة الهدى ومصابيح الدجى مكانتهم حفظها لهم الله عز وجل وعظّم شأنهم، وأعلى قدرهم، وأثنى عليهم، وأفاض عليهم من معين فضله. قال تعالى: ?شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ? .

خامساً: التكفير

وأعنى به التساهل فى تكفير المعين دون إعمال الضوابط الشرعية والاصولية فى تكفير المعين واتهام الناس بالكفر والخروج من الملة أو إتهام الناس بالنفاق الاكبر دونما دليل يذكر من شرع او دين ، والمشكلة الكبرى والبلية العظمى هو ما ينبنى على ذلك من استحلال دماء الناس وأموالهم بل وأعراضهم ، فإنا لله وإنا اليه راجعون والمسارعة فى التكفير لها أسباب كثيرة : منها على سبيل المثال لا الحصر – انتشار المظالم من قتل وسجن وغيره بغير دليل ولا بينة فيسأل الشاب نفسه : هل من يقتلوننا او يسجنوننا أو يعذبوننا يمكن ان يكونوا مسلمين ؟ - ومنها فشو الجهل بقواعد الشريعة واحكامها - ومنها إنتشار اليأس والاحباط وفقدان الامل وهو الذى تحدثنا عنه سابقاً- ومنها التضييق على العلماء الربانيين المخلصين إعلاميا ودعوياً فلا يرى الشاب أمامه الا دعاة الفتنة والضلالة. ولن أطيل النفس فى هذه القضية فقد تنبه لها علماؤنا ودعاتنا وأطالوا النفس فى الحديث عنها.

سادساً: الانعزال

واقصد به ميل جموع الناس الى الفردية والكفر بالعمل الجماعى وأهميته والمناداة بعدم مشروعيته وأنه لا طائل من ورائه ولم يجلب على الامة الا الفرقة والنزاع والشر. فينبنى على ذلك الدعوة لهدم المؤسسات والكيانات الموجودة حتى سمعنا من يدعوا الى حرمة إنشاء الجمعيات الاهلية والخيرية الموجودة بدعوى أنها من العمل الجماعى المحرم ، فإنا لله وإنا اليه راجعون . وهذا فهم سقيم وجهل بأبسط قواعد الشريعة وعدم إدراك للواقع. ناهيك عن مخالفة هذا الفكر للفطرة السليمة المستقيمة فإن الانسان مخلوق إجتماعى بطبعه يحتاج الى الناس ويحتاجون اليه ، والانسان قليل بنفسه كثير بإخوانه. ماذا سيحدث لو قالت كل نحلة أنا سأنتج عسلا بمفردى ؟ ما كنا أكلنا عسلا ابداً. ماذا لو قالت كل نملة انا سأنشئ مجتمعى وحياتى بمفردى ؟ الاجابة: سينتهى عالم النمل وينقرض. وربما خطر الانعزال لا ينتبه اليه الكثير من الدعاة ولعمرى لهو قاصمة الظهر للعمل الاسلامى ، ودائما أهل السلطة والحكومات المتعاقبة تشجع على الانعزال وتعمل على عدم وجود كيانات تناطحها أو تفرض رؤيتها الاصلاحية على المجتمع ، فينشرون هذا الفكر المنحرف ويشجعون الشباب عليه ، فسبحان الله : كم قتل هذا الفكر من كفاءة نادرة وكم أضاع من جهد داعية . قال تعالى (وتعاونوا على البرِّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) وقال (ولتكن منكم أمَّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)
والأمة ليست مجموعةَ أفرادٍ مُتناثرين ولا مجرَّد جماعة. وإذا نظرنا إلى القوى المُناوئة للإسلام وجدناهم يعملون في صورة جماعاتٍ وتكتُّلات وأحزاب وجبهات،فكيف يُقابل هذا الجهد الجماعي المنظم، بجهودٍ فرديَّةٍ مُبعثرة، كما قال أبو بكر لخالد بن الوليد رضي الله عنهما: "حاربهم بمثل ما يُحاربونك به.. السيف بالسيف، والرمح بالرمح، والنَّبْل بالنبل يقول الإمام ابن تيمية في شرعية العمل الجماعي، رحمه الله-: “وأما لفظ الزعيم فإنه مثل لفظ الكفيل والقبيل، يقول الحق تبارك وتعالى: ?وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ? (يوسف: 72)، فمن تكفَّل بأمرِ طائفة فإنه يُقال هو زعيم، فإن كان قد تكفل بأمر طائفة بخير كان محمودًا على ذلك، وإن كان بشرٍّ كان مذمومًا على ذلك“.وقال أيضاً “فإن كانوا مجمتعين على ما أمرَ الله ورسوله من غير زيادةٍ ولا نقصان، فهم مؤمنون، وإن كانوا قد أرادوا زادوا في ذلك أو نقصوا، مثل التعصب لمَن دخل في حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمَّن لم يدخلْ في حزبهم سواء كان على الحق أو الباطل، فهذا من التفرُّق الذي ذمه الله تعالى ورسوله، فإن الحقَّ- سبحانه وتعالى- ورسله أمرًا بالجماعةِ والائتلاف، ونهيًا عن التفرقةِ والاختلاف، وأمرًا بالتعاونِ على البرِّ والتقوى، ونهيًا عن التعاونِ على الإثمِ والعدوان“.


والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل