• الرئيسية
  • مرضى الجزام اجتمع عليهم الفقر والمرض.. فعزلهم المجتمع داخل مستعمرة الجذام بعزبة الصفيح

مرضى الجزام اجتمع عليهم الفقر والمرض.. فعزلهم المجتمع داخل مستعمرة الجذام بعزبة الصفيح

  • 163
مستشفى الجزام

ومصطفى عيسوي

أطرافهم مبتورة ومتآكلة، وجروحهم متقيحة، وعيونهم ووجوههم شكلها مخيف، ورغم ذلك هم راضون حامدون شاكرون، ووجوههم رغم المرض الذى شوهها إلا أنها بشوشة راضية، هم سكان مستعمرة الجذام بعزبة الصفيح سابقا "وعزبة الشهيد عبد المنعم رياض حاليا"، التابعة لمنطقة أبوزعبل بالقليوبية، الناس هناك فقراء ومرضى ومعظمهم مشوهون جسديا بسبب المرض المؤلم جسديا ونفسيا، حتى علي الأطفال الذين لم يسلموا منه، وأدي الاعتقاد الخاطئ بأن المرض معدٍ إلى خوف الناس منهم وعدم زيارتهم أو الاقتراب منهم، المرضي منقسمون داخل المستعمرة إلي ثلاثة أقسام، الأول: منهما المصاب إصابة شديدة؛ ومن ثم يقيم داخل المستشفي، والثاني: هم المصابون إصابات متوسطة ومن ثم يقيمون داخل المستعمرة في مساكن عشوائية، والأخير ذات الإصابات البسيطة الذين يسكنون في الحزام الجغرافي للمستعمرة بالقري والعزب المتاخمة لها.


اخترقت "الفتح" مستعمرة الخوف لـ " مرضى الجزام" لتكشف عن مفاجأة أفصح عنها المرضي بخصوص الأسباب الحقيقية وراء انتشار المرض وتوطنه بالمناطق المتاخمة للمستعمرة مثل عزبة شكري، وعزبة الأصفر، والباشا، والأبيض، وغيرها داخل الحزام الجغرافي للمستعمرة مؤكدين أن السبب يعود إلى انتشار مصانع السيراميك، والشبة، والأسمدة والكيماويات، إضافة إلي وجود المصارف، والمستنقعات التي تخترق بيوتهم ، فضلا عن وجود أكوام من المخلفات دون مراعاة لأي أصول صحية لدفنها ، في ظل انعدام الضمير وغياب المسئولية لدي القائمين علي شئون البلاد؛ الأمر الذي جعلهم فريسة لهذا المرض.

واكتشفت "الفتح" أيضا في جولتها داخل تلك المستعمرة وجود محطة مياه أثرية يرجع تاريخ إنشائها إلى عام 1940 لخدمة المستعمرة وبعض القرى القريبة منها والتي يؤكد المرضى أن مياهها غاية في النقاء ، كما اكتشفت أيضا وجود حدائق غناء من أشجار الفاكهة المتنوعة التي يعمل بها عدد من المرضى القادرين على العمل في الري وتنظيفها بأجر رمزي يصل إلي 150 جنيها شهريا ، هذه الحدائق يباع ثمارها بالمزاد العلني الذي تقيمه وزارة الصحة دون تخصيص جزء من ثمنها لصالحهم علي حسب قول أهالي المستعمرة ، ورغم علم الكثير منهم أن الموت أقرب إليه من الحياة إلا أن الأمل لا يفارقهم؛ ومن ثم أقاموا ورشة لتصنيع الأحذية، وأخرى لتصنيع الملابس لخدمة مرضى المستعمرة بسبب حدوث تغيرات في الأرجل والذراعين بسبب المرض ونجحوا بالفعل في ذلك بعد أن فشل المجتمع في تقديم احتياجاتهم من الملابس والأحذية، كما أنهم يصرون علي طلبهم الذي لم يتغير بتغير الحكومات والأنظمة بأن توليهم الدولة اهتماما باعتبارهم أحياء وليسوا أمواتا ، وأن يتم منحهم بعض الوظائف إثر فقد الكثير منهم وظيفته بسبب المرض، متمنين أيضا أن يحقق رئيس الدولة عبد الفتاح السيسي العدالة والمساواة بين الجميع لتصل العدالة الاجتماعية إليهم باعتبارهم جزءا من أبناء المجتمع المصري حتي يتسني لهم الانخراط في المجتمع والخروج من عزلتهم التي فرضها عليهم الخوف من انتقال العدوة منهم للأصحاء، وللوصول لعمق الموضوع من الناحية الإنسانية التقينا ببعض المرضي من سكان المستعمرة ليروي كل واحد منهم عن مأساته في ذلك المكان المعزول عن العالم بسبب نظرة المجتمع إليهم ؛ لنكتشف مأساة لا تتوقف وجرعات ألم مستمرة لا تفارق المرضى المقيمين داخل أسوار تلك المستعمرة أو المترددين عليها ، فحكاياتهم تدمع العين ، خاصة أن معظمهم إما تركوا وظائفهم جبرا بعد إصابتهم بالمرض، أو أنهم بدون عمل، والقلة منهم لهم معاش الضمان الاجتماعي ، لكن الفاجعة تكمن في وجود أطفال مصابين بالمرض لا يجدون من ينفق عليهم بعد أن غابت الرحمة عن قلوب ذويهم فأحضروهم إلى المستعمرة ونادرا ما يأتون لزيارتهم أو الإنفاق عليهم.


في البداية قال الدكتور محمد حسان أحد أطباء مستشفي الجذام بالمستعمرة، لقد افتري الناس علي مرضي الجذام بالترويج للعدد من الشائعات حول مرض الجذام أخطرها أن المريض ينقل العدوة للأصحاء عند موته ، ومنها كذلك أن المرض ينتقل من خلال المعاشرة الزوجية ، وكذلك أنه ينتقل عبر المعايشة اليومية ، وهو أمر يجافي الحقيقة تماما ، والدليل علي ذلك أن جميع الأطباء داخل المستشفي مخالطون يوميا للمرضي من ذوي الإصابات الشديدة ، ورغم ذلك لم يتعرض أي منهم لانتقال العدوى إليه ، مضيفا أن السبب في تجميع المرضي في مكان واحد هو تجنب المعاناة النفسية التي يتعرض لها هؤلاء المرضي نتيجة لنظرة المجتمع لهم حيث يعتبرهم بالشيء المخيف الذي يستوجب الفرار منهم بما ينعكس بالسلب علي حالتهم النفسية؛ فكان هذا المكان ليواسي بعضهم بعضا؛ ومن ثم فإن مستعمرة الجذام هي مأواهم الوحيد بعيدا عن عيون البشر التي تنظر إليهم بلا رحمة, وهي عزلتهم الأبدية حتي الموت.


واختتم "حسان" كلامه مؤكدا أن عدد المرضي الذين تم تسجيلهم منذ عام 1979 حتي 2013 حوالي 37 ألف مريض، تم شفاؤهم نهائيا ما عدا الذين تم تسجيلهم حديثا حيث يبلغ عدد الحالات الجديدة المسجلة في مصر650؛ ومن ثم تقوم إدارة مكافحة الجذام بوزارة الصحة بموجب برنامج طبي واجتماعي متكامل من خلال مستعمرة الجذام بأبي زعبل والعامرية و18 عيادة للجلدية والجذام بالمحافظات برعايتهم وتأهيلهم صحيا واجتماعيا.


وفي السياق نفسه، أضاف صابر محمود عبد العزيز 70 عاما، جاء إلى المستعمرة من أسيوط ويقيم بها منذ 30 عاما قبل أن يكتشفوا علاجا للمرض كان الناس يفرون منا ويخافوننا جدا ، حيث كان المصاب بالجذام ينقل بالقوة إلى المستعمرة على يد الشرطة ، أما بعد اكتشاف العلاج الشافي له لم يعد هذا الخوف يسيطر علي الناس من مصابي هذا المرض ، ويكمل "عبد العزيز" رغم أنه شفي تماما من المرض إلا أنه ما زال يقطن بالمستعمرة لتعوده علي الإقامة بها منذ فترة طويلة ، مشيرا إلى أنه يخرج أحيانا في الأعياد والإجازات لقضاء هذه المناسبات مع أهله في مسقط رأسه ، ثم يعود للمستعمرة مرة أخري، مؤكدا أن الجذام مرض يمكن الشفاء منه ولكن المشكلة تكمن في عجز الأدوية التي يحصل عليها مريض الجذام المصاب بأمراض أخرى مثل الكبد والكلى والعظام التي يتعرض لها مرضى الجذام خاصة كبار السن ، مشيرا إلى أنه لم يعد يقدم إليهم سوي الأدوية الجلدية فقط التي يقطعون مسافة طويلة لصرفها من مدينة بنها كجرعة شهرية فضلا عن عدم وجود غرفة عناية مركزة في المستشفى أو أطباء مقيمين وفي تخصصات مختلفة؛ مما يضطرهم للذهاب إلى المستشفيات خارج المستعمرة ، وهنا تكون الفاجعة فبمجرد علم المستشفى بإصابة المريض بالجذام ترفض استقباله، لافتا إلى أن أحد المرضي المصابين بالجذام والكبد وافته المنية مؤخرا بسبب تدهور حالته الصحية بعدما عجزوا عن توفير العلاج اللازم له .


ومن جانبه، اشتكي مختار عبده أبو السعود 62 عاما من القليوبية، ويقيم يالمستعمرة منذ 23 عاما من نظرة المجتمع وعزلهم عن العالم الخارجي، وقلة زيارة المسئولين بالمحافظة، مطالبا رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي بزيارتهم وتخصيص يوم لمرضى الجذام، وأن يوليهم بعض الاهتمام والدعم والرعاية‏ حتي تتغير نظرة الناس إليهم؛ ومن ثم يخرجوا من عزلتهم وينخرطوا في المجتمع باعتبارهم جزءا منه.


ومن ناحيتها، أوضحت سعدية التونسي 60 سنة من دمنهور، أنها تسكن في عزبة الصفيح مع أبنائها بعدما توفي زوجها الذي كان مريضا بالجذام ، مؤكدة أن المستعمرة هي المكان الوحيد الذي يسعها هي وأولادها ؛ لأن الناس في الخارج ينظرون لهم نظرة خوف واشمئزاز.

أما بشير فتحي 47 عاما من الجيزة، أحد الزائرين للمستعمرة، يقول لقد نشأت فوجدت أبي وأمي اللذين هما سبب وجودي في تلك الحياة مصابين بالجذام ومحجوزين في تلك المستعمرة كالمحكوم عليهم بالإعدام؛ لأن الناس تهرب من التعامل معهما ، مضيفا أنهما رغم شفائهما لا يمكنهما تصور العيش في مكان آخر خارج أسوار المستعمرة بعدما قضيا 30 عاما في ذلك المكان ، ويتساءل "بشير": كيف لهما العودة لبلدهما بعد هذا الغياب الطويل الذي لن يعرفهما أحد بعد تلك السنوات الطويلة في مقابل أنهما لن يعرفا أحد كذلك، خاصة أن كل من يترك هذه المستعمرة ويعود إلى قريته أو مدينته يمطر بنظرات غريبة من الناس؟!


الجدير بالذكر أن المستعمرة افتتحت عام 1933 وأقيمت علي نحو 15 فدانا بطريقة عشوائية، وهي عبارة عن بيوت من الصفيح, وتم تحديث وتنظيم القرية في الـ20 سنة الأخيرة بدعم من الجمعيات الأهلية وبعض رجال الأعمال، وزودت ببعض المرافق مثل الكهرباء ومياه الشرب, ويقطن بالقرية نحو600 أسرة من مرضي الجذام القدامي وذويهم وبعض المواطنين من غير المرضي.