المَورِدُ منك قريب

  • 192

هذا حال كثير من شبابنا .. يظمأ والمورد منه قريب، النور قريب منه ولا يستطيع الوصول إليه، ولا التمتع بما فيه من الخير العظيم.

لقد حال دون شبابنا والاستمتاع بلذة الدين والدنيا قيودٌ وسجون عديدة، لم تدع لأحدهم الفرصة ليستمتع بالطاعة والعبادة ولذتها فأصبح أحدهم، بل وأحدُنا أيضاً، يُصلى ولا يشعر بلذة الصلاة، ويقوم ولا يشعر بلذة القيام وحلاوته، ويصوم ولا يتذوق طعم الصيام، بل قد يقرأ القرآن ويستمع إليه ولكن دون جدوى؛ فلا يقشعر بدنه ولا تدمع عينه ولا تتحرك مشاعره ويقف متعجباً من موقف الجن ومن موقفه: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) (الجن:1-2).
لقد عَمِلَ القرآن فيهم وحركهم فأخذوا القرار الجريء الفوري: "فآمنا به"، ونحن معشر الشباب كم من آية نسمعها ونقرأها فلا تعمل فينا، ولا تحركنا لنسلك مسلك الجن فنؤمن ونتغير, والاستمتاع هو الذي يغير السلوك؛ فإن الجن لما أحسنوا الإنصات استمتعوا فتغيروا وتحركوا ليغيروا: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) [الأحقاف:29].
أخي الحبيب!
من المستمتع ؟
هل هذا الغارق فى لذة الحس مع كل صباح له موعد مع فتاة أو سيجارة أو حفلة سمر أو نزهة بلا هدف أو قتل فراغ أو عادة سيئة أو فاحشة يفعلها؟
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها ... من الحرام ويبقى الوزر والعار
تبقى عواقب سوءٍ في مغبتهـا ... لا خيــر فى لذةٍ من بعدها النار
هل المستمتع ذلك الغارق فى أحلام اليقظة السابح فى بحر الخيال يكره من يوقظه من عالمه، عالم الوهم والخيال؟ فإن من الناس من ينام ليحلم، ومنهم من يستيقظ مبكرا ليحقق أحلامه، وأما صاحبنا فهو المستيقظ النائم الذى يسعد بالنجاح الخارق، والذي يحققه من خلال أحلامه من فوق السرير ومن تحت اللحاف....؟!
هل المستمتع ذلك الرجل القريب من ربه المعتصم به صاحب الهدف فى الحياة يسعى لتحقيقه ونظره فى السماء يرجو جنة ربه ورضوانه؟
هل المستمتع ذلك الشاب المتمدن الذي عاش فى وهم المدنية ؟ مع أنها لم تقضِ على مشاكل الشباب ولم تحقق لأحدهم راحة البال ولم تُشبع حاجاتهم ورغباتهم الخُلقية أو الروحية ولم تخلصهم من الصعاب التي تحيط بهم.
من المستمتع ؟
إن المستمتع الحق هو من ينتفع من قوته وشبابه في طاعة الله عز وجل بكل ألوانها، ومن رام السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية، وشرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عما فى أيدي الناس؛ قال عبد الله بن عمرو بن العاص:"جمعتُ القرآن فقرأتُ به في كل ليلة، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال:إني أخشى أن يطول بك زمان وأن تمل، اقرأه فى كل شهرٍ، قلت: يارسول الله دعنى استمتع من قوتى وشبابى .. فقال اقرأه فى عشرين، فقلت: دعنى أستمتع من قوتى وشبابى فقال: اقرأه فى كل عشرٍ، فقلت: دعنى استمتع من قوتى وشبابى، فقال: اقرأه في كل سبع، فقلت: دعني استمتع من قوتي وشبابي، فأبى -صلى الله عليه وسلم-"(مسند أحمد:6516).
أخي الحبيب !
حسن الاستماع سبيل الاستمتاع؛ قال تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ) [الأنعام:25]، فإنهم لم يحسنوا الاستماع فلم يستمتعوا ولم ينتفعوا بشيء ولن تعي الموعظة والتذكرة إلا تلك الأذن (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) [الحاقة:12]، وعلى العكس من ذلك يأتي ضماد بن ثعلبة إلى مكة وكان يرقى من الجن وسمع سفهاء مكة يقولون إن محمداً مجنوناً أومسّه الجن, فقال: لو رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي فلقيه فقال يا محمد! إنى أرقى من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء فهل لك ؟ ( يريد أن يرقيه ) فقال -صلى الله عليه وسلم: (إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أما بعد ... ) فقال الرجل: أعد عليّ كلماتك هؤلاء، فأعادهن النبي-صلى الله عليه وسلم- ثلاثاً ، فقال: والله لقد سمعتُ قول الكهنة وسمعت قول السحرة وسمعتُ قول الشعراء، وما سمعت مثل هؤلاء الكلمات فمد يدك أُبايعك على الإسلام، فمد النبي-صلى الله عليه وسلم- يده فبايعه وقال له:"وعلى قومك؟!" فقال:" وعلى قومي" .
إن مثل هذا الرجل استمع واستمتع فتغير، ووعد أن يغير وتحمل الرسالة.
أخي الحبيب!
ولكى تستمتع..استمع واستعن بالله وغيرّ سلوكك ولا تستسلم لليأس من التغيير، واجعل لك أهدافاً مثمرة واصنع من الفشل نجاحاً وتحلى بالإيجابية وابتعد عن المثالية واحذر القفزة الواحدة؛ فإن أول الغيث قطرة وأكثر من الدعاء..

اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا.
و صلِ اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..