عاجل

تهادوا تحابوا

  • 223

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
من الفعال التي حض عليها الرسول صلى الله عليه وسلم المهاداة بين المسلمين،وبين أنها من خلق الإسلام، حيث قال: (تَهَادُوا تَحَابُّوا) (رواه البخاري في الأدب المفرد، وحسنه الألباني).
 
والهدية يهديها الأخ لأخيه: هي رسول خير، ومظهر حب، ووسيلة قربى، ومبعث أنس... تـُقرِّب البعيد، وتصل المقطوع، وتشق طريق الدعوة إلى النفوس...
 
ومن أولى بذلك من الداعية؟ ومن أحوج منه إلى ذلك؟ ولكن تحقيق ذلك يحتاج إلى بذل وكرم؛ فالهدية الجميلة -وإن صغرت- من أهم وسائل كسب القلوب، وبناء العلاقة بين الناس، وهي قد تكون بسيطة جدًا في قيمتها، ولكنها تدخل سرورًا، وتظهر مدى الاهتمام.
 
قال البخاري رحمه الله في "الأدب المفرد": "باب قبول الهدية" وروى فيه عن ثابت قال: كان أنس يقول: "يا بني تبادلوا بينكم؛ فإنه أود لما بينكم" قال الألباني: صحيح الإسناد.
 
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: "قبول الهدية سنة مستحبة تصل المودة وتوجب الألفة".
 
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية، ويثيب عليها، ويدعو إلى قبولها، ويرغب فيها؛ فقد ورد عنه أنه قال: (لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِىَ إِلَىَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْتُ) (رواه البخاري)، والكراع: مستدق الساق من الغنم والبقر العاري من اللحم.

ولا يقف عطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عند من يعطيهم برغبته، أو أصحاب الأخلاق الفاضلة، بل يتعدى عطاؤه من يعامله بغلظة، بل ومن يتطاول عليه لا أقول باللسان، بل باليد أيضًا، ومع هذا لا يزيده إلا حلمًا، فيدفع بالتي هي أحسن السيئة، فإذا الذي بينه وبينه عداوة كأنه ولي حميم... إنه قانون الله، وسنته في تأليف القلوب.
 
والهدية لها دور كبير ومهم في استلال سخائم الحقد، وأدران التنافس والحسد من القلوب، ثم غرس أسمى معاني الثقة والمحبة والألفة والمودة.
 
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يهدي للناس، ويقبل هديتهم، وكان يحرص أن يكافئ على الهدية بمثلها، أو أكثر، وأمر بها ففي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُتِىَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ: أَهَدِيَّةٌ أَمْ صَدَقَةٌ؟ فَإِنْ قِيلَ: صَدَقَةٌ؛ قَالَ: لأَصْحَابِهِ كُلُوا، وَلَمْ يَأْكُلْ، وَإِنْ قِيلَ: هَدِيَّةٌ؛ ضَرَبَ بِيَدِهِ صلى الله عليه وسلم فَأَكَلَ مَعَهُمْ". قال الحافظ ابن حجر: "والأحاديث في ذلك شهيرة".
 
ووعى الصحابة الكرام هديه صلى الله عليه وسلم الرفيع في الهدية، فطبقوه وحثوا عليه: فكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما تذبح له شاة فيسأل غلامه: أهديت لجارنا اليهودي؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُه) (متفق عليه).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "لأن أعول أهل بيت من المسلمين شهرًا، أو جماعة، أو ما شاء الله أحب إليَّ من دينار أنفقه في سبيل الله عز وجل".
 
ولقد تناقل المسلمون على مدى العصور -عصور التاريخ الإسلامي- هذا الهدي وطبقوه، ودعوا إليه.
 
قال ابن حبان رحمه الله تعالى: "فالواجب على المرء إذا أهديت إليه هدية أن يقبلها ولا يردها، ثم يثيب عليها إذا قدر، ويشكر عنها، وإني لأستحب بعث الهدايا إلى الإخوان بينهم؛ إذ الهدية تورث المحبة، وتذهب الضغينة".
 
عن عبد الملك بن رفاعة: "الهدية هي السحر الظاهر".
 

إن الهـديـة حـلـوة كـالــ             سحـر تـخــتـلـب القــلـوبا
تـدنـي البـعـيـد مـن الهوى          حـــــتى تـصيـره قـريـبًا
وتعـيـد مـضـطـغـن العـداوة        بـعـد بـــــغـضته حبيـبًا
تنفي السخيمة من ذوي            الشحنا وتمتحق الذنوبا
 
وبلغ الحسن بن عمارة أن الأعمش يقع فيه، فبعث إليه بكسوة، فلما كان بعد ذلك مدحه الأعمش فقيل له: "كيف تذمه ثم تمدحه؟ قال: إن خيثمة حدثني عن عبد الله قال: إن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها".
 
قال أبو حاتم بن حبان:
"والبشر مجبولون على محبة الإحسان، وكراهية الأذى، واتخاذ المحسن حبيبًا، واتخاذ المسيء إليهم عدوًا".
 فالعاقل يستعمل مع أهل زمانه لزوم بعث الهدايا بما قدر عليه؛ لاستجلاب محبتهم إياه، ويفارق تركه مخافة بغضهم.
 
قال الشاعر:
هـدايا النـاس بـعضـهـم لبـعض            تولـد فـي قـلبهـم الوصـالا
وتـزرع في الضمير هوى وودًا           وتكسوك المهابة والجلالا
مـصـايـد للـقـلـوب بـغـيـر تعب            وتـمنحك المحبة والجمالا
 
ويزيد في أثر الهدية حسن اختيار الداعي لها، ومناسبة وقتها وظروفها للمدعو؛ بعث أحدهم لأخيه بطبق ورد في عيد من الأعياد، وقال له:
بعــثـنا بـبـرٍّ تـافـه دون قــدركــم        وما تبعث الألطاف للقـُلِّ والكثر
ولكـن ظـــرفــا أن تـزيــد مــودة        فهل تـكـرمنا بالقبول وبالعـذر؟
فلو كان بِري حسب ما أنت أهله           أتى إذًا روحـي على طـبـق الـبر