حكم فاعل الكبيرة

  • 239

ومن ذلك ما رواه أبوذر رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتاني آت من ربي فأخبرني، أو قال: بشرني أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا دخل اللجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق"، ولا شك أن الموحد إذا مات مصرا على معاصي دون الشرك؛ فإن مآله في النهاية الجنة، فإنه من قال لا إله إلا الله نفعته يوما من دهره أصابه قبل ذلك ما أصابه، وهذا الحديث كما قال العلماء من أحاديث الرجاء، ينبغي أن ندرس معها أحاديث الوعيد على الكبائر حتى لا يفضي الاتكال عليها إلى التجرؤ على المعاصي واعتقاد مذهب المرجئة.

ومن ذلك مارواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمد عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل".

ومن ذلك مارواه جابر رضي الله عنه، قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يارسول الله ما الموجبتان؟ فقال:" من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة".

ومن ذلك الأحاديث الكثيرة المتواترة في فضل الشهادتين، فمن ذلك قوله صلى الله عليه سلم:" من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة".

وقوله صلى الله عليه وسلم: فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله"، ومن ذلك أحاديث الشفاعة وهي في "الصحيحين" وغيرهما.

فمن ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " .. حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فوالذي نفسي بيده! ما من أحد منكم أشد مناشدة لله، في استقصاء الحق، من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون: ربنا، كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون، فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار، فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه، ثم يقولون: ربنا، ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقول: ارجعوا ، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون: ربنا، لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا، ثم يقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقولون: ربنا، لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا، ثم يقول:  ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقولون: ربنا، لم نذر فيها خيرا.

وكان أبو سعيد الخدري يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم:" إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما" (النساء:40).

وأتى صريحا ما يدلعلى شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم تشمل أهلالكبائر من أمته، فعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" فإن قال قائل: إذا كانت الأدلة على عدم كفر فاعل الكبيرة مستحيل لها بهذه الكثرة والقوة والصراحة فلماذا ضل من ضل في هذه المسألة؟

فالجواب: ما قدمته آنفا وهو أن الهوى يعمي ويصم.

قيل لبعض السلف: ما بال أهل الأهواء لهم محبة لأهوائهم؟ قال: ألم تسمع قول الله عز وجل :" وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم" (البقرة:93).

ثم أهل الأهواء لا ينظرون في الكتاب والسنة نظر الفقير إليهما، وإنما يسغنون بآرائهم وأهوائهم ثم ينظرون في الكتاب والسنة لتأييد ما رأوه بأرائهم وأهوائهم: " فيتبعون ما تشبه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله" (آل عمران: 7).

وقدتمسكوا في هذه القضية بظواهر نصوص لم يفهموا مراد الشرع بها فتخرصوا عليها بالظن الكاذب، فمن ذلك قوله عز وجل:" ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما" ( النساء: 93)، ولم يفهموا هذا النص في ضوء النصوص الأخرى مثل قوله عز وجل: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" ( النساء:16)، وقوله عز وجل: "فمن عفى له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء اليه بإحسان" (البقرة: 178).

ومن النصوص التي تمسكوا بها قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد".

وجواب أهل السنة: أن المنفى هنا كمال الإيمان لا مطلق الإيمان، كما يقال فلان ليس برجل أي كامل الرجولية، أو ليس بإنسان أي كامل الإنسانية، وإن كان فيه بعض الصفات الأخرى، فالنفي إما نفي وجود كما تقول: لا رب إلا الله، وإما أن يكون نفي صحة كما تقول: لا صلاة إلا بطهور، أو نفي كما كما في قوله صلى الله عليه وسلم:" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، وإنما يفهم المقصود من دراسة الشرع، فيفهم النص على ضوء النصوص الأخرى في المسألة، واستدلوا كذلك بإطلاق اسم الكفر على بعض المعاصي تغليظا، والجواب: أن الشرع دل بظواهر كثيرة على وجود كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وفسوق دون فسوق، وقد تقدم بحث ذلك.

 خلاصة هذا المبحث وصفوة القول فيه: أن الله عز وجل جعل للإسلام بابا وهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، فمن ولج من هذا الباب لا يخرج إلا من هذا الباب، كما قال الطحاوي: " ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحوده ما أدخله فيه" فاستحلال الكبائر مثلا نقض لشهادة الحق، وإنكار المعلوم من الدين بالضرورة جحود بشهادة الحق، والاستهزاء بالشرع أو سب الدين أو سب الله أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم جحود ونقض لشهادة الحق، أما شرب الخمر أو الزنا أو السرقة أو غير ذلك من الكبائر، إذا لم يكن فاعلا مستحلا، وإنما هو تقديم لهوى النفس والشيطان على شرع الله، فإن هذا بمجرده لا يدل على نقض الإقرار السابق، وأدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على من لعن من كان يشرب الخمر ويؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيأمر بإقامة الحد عليه، وأثبت له حب الله وحب الرسول، فقال: " لا تلعنوه، فو الله ما علمت إنه يحب الله ورسوله"، فالمعاصي لا تنافي أصل الإيمان، ولكنها تنافي كمال الإيمان، وكم من محب للصحة ويأكل ما يضره.

ثم إن الجمع بين النصوص واجب ما أمكن، أما الاقتصار على بعض النصوص وفهمهما بمعزل عن الشرع فإن هذا هو أصل الابتداع في الدين ومخالفة سبيل المؤمنين.

والله عز وجل يهدينا وإخواننا المسلمين لما يحب ويرضى، ويختم لنا بخاتمة السعادة ويرزقنا الحسنى وزيادة، والحمد لله رب العالمين.