ما الذي أصاب الأمة؟

  • 195

إن المتأمل في واقع الأمة المسلمة، في عهدها الحاضر، وماضيها المشرق المنير، يشعر بمرارة شديدة، أٌنظروا حولكم وتفكروا في أمر أمتكم: ليبيا، وسوريا، والعراق، والسودان، اليمن، فلسطين وغيرها من البلاد المسلمة، ماذا ترى؟ ترى: قتال، تفرق، ضعف، فقر، مهانة، ذل، تأخر في جميع المجالات، ما الذي أصاب أمة الإسلام؟ فهز كيانها وأضعف قوتها، وكان سبب ذلها وهوانها؟ ما الذي جعل الأمة تسير في ذيل القافلة الإنسانية؟ لقد شخص النبي -صلى الله عليه وسلم-المرض الذي أصاب الأمة قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا»، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ»، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ" [أخرجه أبو داود: 4297، وقال الألباني: صحيح].

وما كان الصحابة -رضي الله عنهم- يعرفون الوهن، بل كانوا يعرفون العزة والرفعة والكرامة، كانوا يعرفون طريق النصر، وطريق الشهادة في سبيل الله -عز وجل-، وليس المقصود بالموت في الحديث: الموت الذي كتبه الله -عز وجل- على بني آدم؛ فإن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يكرهون هذا الموت أيضاً، فلما قال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ" قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ: إِنَّا لَنَكْرَهُ المَوْتَ، قَالَ: "لَيْسَ ذَاكِ، وَلَكِنَّ المُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ المَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ" [أخرجه البخاري: 6507]

فالموت الذي كتبه الله عز وجل على بني آدم كل العباد يكرهونه؛ لأنه مصيبة، قال عز وجل: {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة:106]. فلا يصاب أحد في الدنيا بمثل مصيبة الموت، ولكن الموت الذي هو الشهادة في سبيل الله -عز وجل-كان الصحابة يحبونه، كما قال خالد -رضي الله عنه- للروم: "وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَآتِيَنَّكُمْ بِقَوْمٍ يُحِبُّونَ الْمَوْتَ كَمَا تُحِبُّونَ الْحَيَاةَ" [أخرجه سعيد بن منصور في سننه: 2/ 229، والحاكم في المستدرك: 3/ 339، وسكت عنه الذهبي في التلخيص].  

فكانوا يتطلعون إلى الشهادة في سبيل الله -عز وجل-، ويحبون البذل والتضحية؛ لإعلاء دين الله عز وجل، وهذا الوهن الذي أصاب الأمة هو حب الدنيا، والتعلق بها، وكراهية البذل والإنفاق، وكراهية الموت في سبيل الله عز وجل، وقد حكى الله -عز وجل-عن الكفار أنهم يغترون بظاهر الدنيا وزينتها، فقال -عز وجل-: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة:212].

فالمؤمن لا يغتر بالدنيا، ولا تذهله فيها الأضواء، ولا تفتنه فيها الشهوات؛ لأن همته أعلى من الدنيا، هو لا يرغب في الدون، ولا يبيع الأعلى بالأدنى بيع الخاسر المغبون، آماله كلها في الآخرة، وأحلامه كلها في الآخرة، فهو يرغب في الشهادة في سبيل الله عز وجل، ويرغب في درجات الشهداء؛ فلما تعلق المسلمون بالدنيا، وأُشرب حب الدنيا في قلوبهم، وكرهوا البذل في سبيل الله عز وجل؛ أصابهم ما أصابهم من الذل والهوان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:" إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ " [أخرجه أبو داود: 3462، وقال الألباني صحيح]،فما الذل الذي أصاب المسلمين إلا لأن الناس رضوا بالدنيا واطمأنوا بها، وكانت هي مبلغ علمهم، وغاية آمالهم وأحلامهم، كيف يرتفع دين الله عز وجل، وكيف تعلو راية الله -عز وجل-، وكيف يرفرف علم الإسلام من جديد على المعمورة دون بذل من المسلمين، ودون إعلاء لكلمة رب العالمين؟ كيف ترتفع راية الإسلام، وشجرة الإسلام لا تروى بالماء، ولكنها تروى بالدماء؟! أصاب المسلمين الوهن؛ وهو حب الدنيا والتعلق بها، والرغبة في شهواتها، وزهدوا في الآخرة الباقية الدائمة، والله -عز وجل-قد أمرنا بالزهد في الدنيا، وقد رغبنا في الآخرة، فقال عز وجل: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال:67]، وقال عز وجل: {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} [الرعد: 26]، فهذا الذي أصاب الأمة وإلى الله المشتكى.