داعش بين الانحراف الفكري وممارسة العنف

  • 171

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد

فلن تكون الخلافة على منهاج النبوة التي بشر بها رسول اللهصلى الله عليه وسلم بقوله: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم تكون ملكاً عاضاً ثم تكون ملكاً جبرياً ثم تكون خلافة على منهاج النبوة"، إلا من خلال عمل أهل السنة والجماعة ومنهجهم ودعوتهم. ومن هذا المنطلق وجب علينا في هذة الآونة وقد ظهرت حركة داعش المنحرفة أن نبين ونوضح مناهج التغيير الصحيحة الموافقة لشرع الله تعالى، وكما هو معلوم لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فداعش قد اتخذت طريق التكفير والقتل منهجا في التغيير وذلك بدعوى الجهاد في سبيل الله تعالى، وفسادهم ظاهر لكل ذى عقل وبصيرة، فما الذى قدمته داعش لسوريا أو العراق؟ وما الذى عاد على الأمة من كثرة القتل؟ وقد رأينا كيف يستهينون بأمر الدماء ويذبحون المسلمين كذبح البهائم وإنا لله وإنا إليه راجعون.

والذين يتبعون داعشا لا يعلمون ما هي مراحل تشريع الجهاد: ففي السنة الثانية من الهجرة فرض الله القتال و أوجبه بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، وقد مر الجهاد بعدة مراحل:
الأولى: الكف والإعراض والصبر على الأذى مع الاستمرار في الدعوة.
الثانية: إباحة القتال من غير فرضية.
الثالثة: فرض القتال على المسلمين لمن يقاتلهم فقط.
الرابعة: قتال الكفار ابتداءً.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله: (فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين وبآية قتال الذين أتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)، ولا خلاف بين العلماء في العمل بمراحل الجهاد المختلفة، وإلا فالسلف لا يكلفون المستضعف من المسلمين الذي حاله مشابهة بحال النبيصلى الله عليه وسلم في مكة بالقتال وإنما الواجب عليه أن يجتهد لكي يصل إلى حال قوة يجاهد فيها الكفار، وكيف يكون الجهاد واجباً على الناس وهم غير قادرين ولا مستطيعين؟ فالواقع هو الذي يحدد أي الأحكام هو الأنسب في مراحل الجهاد وأن التطبيق بحسب الظروف الموجودة فلا بد من النظر بعين الاعتبار لحالة المسلمين وماهم عليه من ضعف أو قوة.

بل قد تكلم العلماء في جواز مهادنة الكفار بمال عند ضعف المسلمين قال ابن قدامة: (لا يجوز المهادنة مطلقاً من غير تقدير مدة لأنه يفضي إلى ترك الجهاد بالكلية وتجوز مهادنتهم على غير مال لأن النبيصلى الله عليه وسلم هادنهم يوم الحديبية على غير مال لهم ويجوز ذلك على مال يأخذه منهم فإنها إذا جازت على غير مال فعلى مال أولى وأما إن صالحهم ببذله لهم فقد أطلق أحمد القول بالمنع منه وهو مذهب الشافعي لأن فيه صغاراً للمسلمين وهذا محمول على غير حالة الضرورة فأما إذا دعت إليه ضرورة وهو أن يخاف على المسلمين الهلاك أو الأسر فيجوز لأنه يجوز للأسير فداء نفسه بالمال فكذا ههنا ولأن بذله المال وإن كان فيه صغار فإنه يجوز تحمله لدفع صغار أعظم منه وهو القتل والأسر وسبي الذرية الذي يفضي سبيهم إلى كفرهم)، وهذا الكلام من الأئمة الأعلام يرد على أصحاب التهور والاندفاع المفضي إلى الشر والفساد.

وقد بين أهل العلم أن العجز كما يشمل العجز الحسي كالأعذار المنصوص عليها في القرآن من المرض والعمى والعرج والضعف وعدم النفقة فإنه يشمل كذلك مسألة الضرر والهلاك الذي يغلب على الظن حصوله لضعف المسلمين ونقص قوتهم عن نصف قوة عدوهم قال تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66]،
والجهاد إذا أطلق فالمراد به قتال الكفار لإعلاء كلمة الله تعالى ولا ينصرف إلى غير قتال الكفار إلا بقرينة تدل على المراد، فهو كما يقول ابن القيم أربع مراتب: (جهاد النفس وجهاد الشيطان وجهاد الكفار وجهاد المنافقين) وقد بدأ النبي صلى الله عليه وسلم جهاده بالدعوة وإعداد المؤمنين إعداداً روحياً وبدنياً لتحمل أعباء الجهاد بالسيف، ثم كانت الهجرة حيث بدأ جهاده بالسيف وتوالت عليه أحكام الجهاد.
فينبغي علينا أن نتعلم سنن الجهاد حتى لا تتحول ديارنا إلى ساحة حرب بين المسلمين أنفسهم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن دخول مكة في السنة السادسة عام الحديبية حفاظاً على حرمة المسلمين الذين كانوا سيقتلون مع من يقتل وتأخر بذلك الفتح سنتين علماً بأن مكة يومئذ دار حرب والكعبة كانت مليئة بالأصنام ولو حدث قتال -يوم الحديبية– لانتصر المسلمون على المشركين وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [الفتح: 22].
                     
وأما عن المنهج المنضبط في التغيير فهو يتبلور ويتلخص في النقاط التالية:
أولاً: الدعوة إلى الإيمان بمعانيه وأركانه كلها من معرفة الله بأسمائه وصفاته والتعبد له بها وتوحيد الربوبية والألوهية والكفر بالطاغوت ومحاربة الشرك في كل صوره القديمة والحديثة من شرك القبور والخرافات وشرك الحكم والولاء وغير ذلك، وكذا الإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقضاء والقدر، وما يتبع ذلك من قضايا الاعتقاد في الصحابة ومسائل الإيمان والكفر، وتحقيق الاتباع للسنة ومحاربة البدعة، وتحقيق التزكية عبادة وخلقاً ومعاملة وسلوكا
فالدعوة إلى الإيمان بهذا المفهوم الشامل هي أصل دعوة الرسل وهي الطريق الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، فهذا المنهج هو أولى الأولويات في العمل.
ثانياً: تربية جيل يحمى ويدافع ويدعو إلى الله:
إن إيجاد هذا الجيل هو في حقيقة الأمر إيجاد للطائفة المؤمنة الملتزمة بالإسلام الداعية إليه والمدافعة عنه ولابد أن يتربى هذا الجيل على منهج أهل السنة والجماعة  فأفراد هذا الجيل يؤدون الواجبات العينية عليهم في العقيدة والعبادة والسلوك والمعاملة والخلق، ويتركون المحرمات، كما أنهم ملتزمون بالتعاون المنضبط على إقامة الفروض التي خوطبت بها الأمة ككل كالتعلم والتعليم قال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]، وللعلم منزلة خاصة وأهمية كبرى في دعوتنا إذ عليه تقوم وبدونه تفقد هويتها وانتمائها للسلف ولابد أن يكون هذا الأمر على كل المستويات، للصغار والكبار للرجال والنساء وفي سائر قطاعات المجتمع، ولابد في هذا الباب من مراعاة المصالح والمفاسد وفق ما تأمر به الشريعة وعلى ميزانها، وكالواجبات الاجتماعية من سد حاجات الفقراء والمساكين ورعاية اليتامى وحث الأغنياء على الزكاة والصدقة ومعاونتهم في إخراجها على ما جاء في الكتاب والسنة، وعيادة المرضى ودعوتهم إلى الله، وإحياء الروابط الأخوية بين المسلمين من اتباع الجنائز والتعزية في المصائب وإجابة الدعوات والتهنئة في الأفراح وغير ذلك، فبهذا المنهج ينتصر الإسلام.
 
وقد قص الله علينا من قصص أنبيائه ورسله وبين أن هناك من الأنبياء من آمن قومه كلهم بدعوته بالحكمة والبيان، قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات: 147، 148]، ومنهم من نصره الله بإهلاك أعدائه فالتمكين منة من الله ووعد غايته تحقيق العبودية لله -للفرد وللأمة- والأخذ بالأسباب المقدورة لنا واجب علينا والنصر من عند الله لا بالأسباب، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]، وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33].فهذا هو السبيل إلى التغيير وهذا هو الطريق الذي اتبعه الأنبياء والمرسلون في أمر الدعوة إلى الله، وأما ما نراه الآن من داعش ومن شابهها فإنه بلا شك يؤدي إلى فساد فوق الفساد، والله المستعان.